في مُحاربة الساموراي القومي "مسرور البارزاني"
شفان ابراهيم
في يونيو 2019 استلم مسرور البارزاني رئاسة وزراء إقليم كوردستان العراق بعد نجاح حزبه، الحزب الديمقراطي الكوردستاني، من اكتساح النتائج الانتخابية والفوز بتشكيل الحكومة. وحصل على تأييد 87 صوتا من أصل 97 نائبا حضروا الجلسة الخاصة ببرلمان الإقليم المؤلف من 111 نائبا يمثلون أربع محافظات هي أربيل والسليمانية ودهوك وحلبجة وإدارة زاخو، وسط غياب ممثلي الاتحاد الوطني الكوردستاني عن تلك الجلسة.
وجاء ترديده لأسمه الرباعي "مسرور مسعود مصطفى البارزاني" أثناء تنصيبه رئيساً للوزراء؛ كتأكيد ودليل عميق على رمزية انتسابه لسلالة الزعماء السياسيين، الممتد إلى أكثر من جيل وقرن، وأن المشروعية التي سيأخذها في رئاسته لحكومة الإقليم، إنما تأتي من القواعد الاجتماعية أولاً، وتراكم نضالات هذه العائلة، التي كانت سيرة زعمائها بشكل متتالي من بين أبرز تجارب الكُرد السياسية والعسكرية في القرن الحديث، وترسخت سيّر شخصيات كثيرة منها، الذاكرة الجمعية العميقة للكُرد في مُختلف دول المنطقة، خصوصاً في مراحل الكِفاح المُسلح المريرة. ليأتي الدور على "مسرور البارزاني" لحمل أدوار فاعلة في توفير مسارات العمل السياسي والدبلوماسي والتعليمي لجيل الشباب، خاصة ضمن منظمات اتحاد شبيبة كوردستان، واتحاد الطلبة الديمقراطي الكوردستاني –العراق، اتحاد نساء كوردستان، أو خارجها، دون إبعاد الوجوه السياسية التي كانت مرافقة لوالده في مسار الحركة والنضال السياسي الكردي، ومُدافعاً عن القواعد الاجتماعية في كوردستان، وسط خناقٍ وحصار حاد واستعصاء سياسي، ومساعٍ أطرافٍ عراقية لشطب الإقليم من الخارطة الجغرافية والسياسية في العراق.
ووفقاً للمطلعين والنُخب السياسية، فإن "مسرور" يمثل محطة مميزة في تاريخ الحركة القومية الحديثة، على صعيد الزعامات السياسية القومية والأمنية والاقتصادية الصاعدة. وتدور بين النخب والباحثين الكورد، عند حديثهم عن المقطع الزمني الذي نشط فيه "مسرور البارزاني" والذي شهد صعوده السياسي والشعبي، بأنه يمثل ضلع أساسي من أضلاع الزعامة الكوردية، خاصة مع توازنه بين المنهج السياسي الحديث، وهويّة الجبل حيث الانتفاضات ثم التعليم والدراسة في اوربا وامريكا، وتاريخ حافل بالفقد والمواجهات العسكرية مع الحكومات العراقية المختلفة، وكونه سليل إحدى العائلات الدينية الكبيرة في كوردستان، مع ذلك جمع في التكوين السياسي والثقافي بين العصرنة والريفية وقيم العمق القومي الكوردستاني، والتعارض الواضح بين مسلكياته الشخصية من جهة، ومن جهة ثانية التوترية الأيديولوجيا التي طبعت بحدية تجارب الكثيرين من السياسيين في الشرق الأوسط. ورغم خوض عائلته وعشيرته وتجربته الشخصية منذ الطفولة المآسي والحروب، والتي قليلا ما نالت اقساطً من الراحة والتعافي من حياة التوتر والمنافي واللجوء والدماء، لكنه بقي بعيدا عن توترية السياسة.
وليس من الغرابة ان يكون لدى هذا الجيل القومي الجديد نزوعاً واضحاً صوب أولوية الجانب القومي على أي مسار اخر، ودفعاً قوياً صوب القضية القومية الكوردية في سوريا، كامتداد قومي كوردي، خاصة مع تكاتف دول الجوار ضد تجربة الإقليم.
ورغم كافة العراقيل التي سعت إليها أطراف "كوردية" عديدة سواء داخل الإقليم أو خارجه، ومع الحمولة المكثفة من المشاكل وصناعتها التي كانت تقف خلفها جهات عراقية وإقليمية، لا ترى في رئاسة "مسرور البارزاني" للحكومة، خيراً لها ولمصالحها،؛ على خلفية التزامه العميق والثابت تجاه القضايا القومية وكل ما يخص الهويّة الكوردستانية وخصوصية الإقليم، والمساعي لدخول الإقليم مرحلة الاكتفاء الذاتي في العديد من المجالات، لكن جميع العراقيل باءت بالفشل. ومن بين أبرز ما حافظ عليه مسرور البارزاني هو النهج القومي الكوردستاني الواضح المعالم والتوجهات. وأوصل "كبينته" الحكومية لبر الأمان وسط بحراً من العقد السياسية التي سعت لجر الإقليم إلى حالة الاستعصاء السياسي والإداري والمالي، وليس اقلها استمرار قطع رواتب موظفي الإقليم من العراق.
وشكل الأمان الكبير في مدن وساحات الإقليم، قُبلة الدبلوماسيين والبعثات الأجنبية، كما نشّط من قطاع السياحة، والتي عادت على خزينة الإقليم بمبالغ كبيرة قياساً على السياحة في عموم المنطقة والعراق، بالرغم من تكرار القصف على الإقليم من جهات عسكرية تابعة لأطراف سياسية أومقربة من دول إقليمية تصر على وأد تجربة الإقليم، كل ذلك الضغط بهدف تعطيل ديناميات التطور الاقتصادي المعتمد في إحدى أوجهه على السياحة كواحد من المداخيل الاقتصادية، والتي تعود بالنفع العظيم على الإقليم.
والأكثر إزعاجاً لتلك الفئات، كان تعيين مسرور البارزاني نائباً ثانياً لرئاسة الحزب الديمقراطي الكوردستاني خلال المؤتمر الأخير للحزب الذي عقد في العام الماضي. بعد تبوئه لسلسلة من المناصب والتمثيل السياسي والعسكري والأمني، وسبق أن تحمل أدواراً مهمة برفقة والده، سواء انضمامه لقوات البشمركة والمشاركة في معارك ضد الجيش العراقي عام1988 أو انتفاضة اذار 1991، أو تحرير العراق. وبرز كفاعل ومحرك في المعارك ضد تنظيم داعش، تلاها مشاركته في التخطيط مع القوات الامريكية في عمليات ضمن المناطق الكوردية خارج الإقليم، وتحرير الرهائن في كركوك والأنزال الجوي لاعتقال أبو سياق القيادي في "داعش" عام2015.
ويحمل رئيس الوزراء في الإقليم، فضل وواجب بدء الإقليم بمرحلة تصدير بعض منتجاته للخارج، خاصة لبعض دول الخليج العربي، سواء من حيث المنتجات المحلية، الحمضيات والخضار، او التباحث حول مستقبل العلاقات الثنائية خاصة في مجال الطاقة، وفتح باب العلاقات مع الخليج العربي تحديداً، ستكون كفيلة بمنح الإقليم وزناً وثقلاً سياسياً واقتصادياً ينقله إلى أطوار أخرى، ورغم تمسك "مسرور البارزاني" بعمق الهويّة القومية الكوردستانية، لكنه كسر رهانات الجميع بعد نجاح علاقاته الوطنية مع العمق العراقي والمكونات المختلفة في كوردستان العراق. ونيل التشكيلة الوزارية للشرعية السياسية الشعبية من إقليم كوردستان أولاً، وثانياً وسط مباركة عراقية وإقليمية ودولية كثيفة، حملت دلالات واضحة على التأييد الدولي للحكومة الجديدة للإقليم.
كما أفرزت السياسات الحكومية المتبعة في الإقليم منذ عدة أعوام، ثلاث مستويات عميقة ومترابطة للعمل معاً، أولها: حماية الامن الوطني وحرية التعبير والصحافة في كوردستان عبر مؤسسة أمنية وعسكرية رصينة، وظيفتها ومهامها حماية كوردستان وامنها الداخلي، بشكل مخالف لما عرفت فيه مثيلاتها في دولاً يزيد عمرها عن /100/ عاماً، لم يهنئ المواطن في تلك الدول بالراحة والأمان، بل كانت الضواغط وخنق الحريات سبباً كافياً للإطاحة بالدول التي عرفت "بدول الربيع العربي"، حيث الملاحقات والتضييق على النشطاء والكتّاب والصحفيين، وثانيتها: حوكمة قطاع مؤسسات الإقليم ومساعيه في مواجهة الفساد وهدر المال العام، وثالثتها: المنافسة السياسية السلمية مع الكتل والأطراف السياسية والحزبية الأخرى المتواجدة على الساحة السياسية في كوردستان، وبربط هذه المستويات الثلاث فإن أبرز ما سيعكر صفوتها ربما تكون السياسات الاقتصادية الشديدة الليبرالية، والتي تقود في النهاية لصالح طبقة رجال الأعمال المستحوذين على الكثير من المزايا.
من جهة ثانية وذات صلة مباشرة، وبالمنطق السياسي السليم، فإن ما حصل عليه الإقليم من مكتسبات ومزايا، ماهو إلا نتيجة تأثير وعمل الجيل السابق، خاصة بعد عام 2003، إبان سقوط النظام العراقي، جيل "مسعود البارزاني وجلال الطالباني" اللذان حافظا على ما زرعه وبدء به الراحل "المُلا مصطفى البارزاني"، ولعب أتحادهما وتوافقهما، أدوراً كبيرة في تحويل ما كان دراجاً على تسميته بــ"شمال العراق" إلى إقليم كوردستان العراق، ضمن الدستور العراقي. لهذا كان من الطبيعي أن تكبر المخاوف من زوال الكثير من مقومات وأركان الإقليم بغياب الجيل السابق. حيث ترك رحيل الرئيس العراقي الأسبق "جلال الطالباني" فراغاُ كبيراً، في ابرز وجوهه، عدمية التفاوض والحوار مع خليفته في إدارة إرثه السياسي والحزبي، سواء من حيث عدم الالتزام بالاتفاقيات بينهم، و من حيث توجههم صوب أطراف عراقية لن تنتظر لحظة واحدة في الانقضاض على الإقليم لو سنحت لهم الظروف ذلك، أو من حيث فشلهم في خلق تحالفات سياسية وطنية عراقية تعود بالنفع على الإقليم كجغرافية سياسية وشعب وقضية، ما دفع بالقيادي السابق في الاتحاد الوطني الكردستاني، وعم بافل الطالباني "والد زوجته" ملا بختيار، ليقول: "إن الاتحاد الوطني الكردستاني أصبح الآن الاتحاد الوطني العراقي وليس الكردستاني!!.
والواضح إن الراحل الطالباني، لم يسعفه الوقت الكافي لإعداد اشخاصاً من حاضنته العائلية لإدارة حزبه الذي اسسه، وهو ماعاد وبالاً سلبياً على الاتحاد الوطني الكوردستاني، والعراق، وكوردستان، والقيادات السياسية السابقة التي انكفأ قسم منها عن العمل السياسي، وتم الإطاحة بالبعض الاخر الرافض للسياسات الممنهجة المتبعة حالياً، على العكس تماماً مما فعله الرئيس مسعود البارزاني من التأسيس لمرحلة سياسية وزمنية مقبلة وعلى المدى البعيد، واحتفاظه بمهمة المرجع السياسي على مستوى العراق والاقليم، والذي سيترك فقدانه –لاقدر الله- فراغاً ضخماً لا يمكن ملؤه أبداً! لكنه في المقابل تمكن من التمهيد لمرحلة مقبلة، ونجح في خلق التآلف والتوافق للمراحل السياسية المقبلة، وتأهيل قيادات ستحمل بنجاح حلقة الوصل بين مرحلة مسعود البارزاني والمراحل المقبلة، وكأنه يمضي على خطى والده "المُلا مصطفى البارزاني: الذي نجح في إعداد نجليه إدريس ومسعود للقيادة من بعده، ورغم بلوغه العمر عتياً، لكن "مسعود البارزاني" لم يفضل الجلوس للراحة.
قُصارى القول: لا يزال الإقليم ينتصر على كافة الفتن والتدخلات الداخلية –الكوردية- والعراقية والخارجية الإقليمية، لدرجة بات من الممكن القول: انتصر الجيل القومي الكوردستاني الجديد على الساسة العراقيين وغير العراقيين الراغبين بتقزيم كوردستان وإرجاعها لنظام المحافظات، والسعي لإركاعه عبر الاقتصاد، ومنع بيع النفط، وعرقلة الانتخابات البرلمانية المقبلة. علماً إنه لا يمكن القول إن البطون الكوردية عقرت عن إنجاب القيادات والمخلصين وذوي القدرات والتضحيات العائلية، لكن الواضح ان سُلالة البرزانيين، كأمراء للسلام وقادة للحرب وعقول للدبلوماسية، نجحوا في كبح مفاعيل الاخرين، الذين يُبدعون في خلق العراقيل والسدود أمام انتعاش الإقليم على مختلف الصعد. وما فات تلك الطبقة المُحاربة للإقليم وحكومة مسرور البارزاني، إنهم سيندمون على فترة رئاسة مسعود البارزاني للإقليم؛ فالجيل الكوردستاني القومي الجديد، لا يجيد العربية جيداً، ومن تمترس على نتاج تربيةٍ قومية كوردية بنكهة أوربية، لن يتمكن واعظه القومي من تأجيل الحق القومي الكوردي لصالح الاخر، وما فعلته جهات عراقية وكوردية من هجوم وحرق وتجويع وحصار للإقليم، سيجدون نتائجه في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
كوردستان24