• Saturday, 17 August 2024
logo

المثلث السياسي عند البارزاني

المثلث السياسي عند البارزاني

د. عرفات كرم ستوني

مستشار الرئيس بارزاني لشؤون بغداد

عندما يتحدث الرئيس بارزاني عن السياسة فهو ينطلق من خبرة عميقة جداً، وتجربة مصقولة، ومسيرة طويلة في النضال المسلح والسياسي، ولهذا كانت توقعاته فيما يخص المنطقة عموما، والعراق وكوردستان على وجه الخصوص صحيحة ودقيقة، ولو قمت باستقصاء تلك التوقعات لاحتجت إلى مقال آخر، ولكن لا بأس أن نشير إلى مثال واحد، ففي مؤتمر لندن للمعارضة العراقية سنة 2002 وبعد قراءة البيان الختامي، طلب البارزاني من المؤتمر إلقاء كلمة وجيزة للتحذير من الجو السائد في المؤتمر، حيث شعر الرئيس أن ثمة توجها لأكثر ساسة العراق وخاصة الشيعة منهم إلى الانتقام، فقال في كلمته: أيها الاخوة قد لا يجرأ غيري على مثل هذا الكلام، ولكنني سأقوله لكم،  يبدو لي أن ثمة توجها لروح الانتقام عند العودة إلى العراق بعد إسقاط النظام، فلو قام كل واحد منا بالانتقام لمن فقده ماذا سيبقى من البلد، دعني أتحدث عن نفسي، لقد فقدت (37) سبعة وثلاثين شخصاً من عائلتي، و(8000) وثمانية آلاف من عشيرتي، وأكثر من مائة وثمانين ألفاً من قوميتي، فلو قمت بقتل العدد نفسه من عائلة صدام، ومن عشيرته، ومن قوميته، قولوا لي ماذا سيكون مصير البلد؟ لنتفق على تطبيق العدالة، ونحدد المجرمين لإحالتهم إلى القضاء، ولكن ما ذنب العامل والشرطي والموظف إذا كان منتمياً إلى البعث، صفق البعض لكلمتي، والبعض الآخر قد رفض، وآخرون سكتوا، وبعد سقوط النظام لم يلتزموا بنصيحتي فبدأ الانتقام، فقد قتل الكثير من الأبرياء، وبدأت التصفية الطائفية، واكتظت السجون العراقية بأبناء المكون السني، ولا تزال الطائفية تنتعش في البلد، ولا يمكن أن تنتهي، وخاصة بعد تشريع قوانين طائفية مزقت اللحمة الوطنية.

     بعد سقوط النظام عاد الرئيس بارزاني إلى بغداد بكل سعادة واعتزاز، وشارك في كتابة الدستور، وتأسيس العملية السياسية، وعندما حصل على الجواز العراقي قال كلمة مؤثرة جداً: لأول مرة أشعر بعراقيتي، أكد الرئيس بارزاني أن العراق الجديد لا بد أن يختلف عن سابقه، فمنذ تأسيس الدولة العراقية سنة 1921 وحتى سقوط النظام لم يجد شعب كوردستان الاستقرار والسلام، وهذه فرصة ذهبية لشعب كوردستان لكي يرى السلام والاستقرار والعيش الرغيد في ظل العراق الجديد، ولأن العراق بلد متنوع ثقافيا، حيث يتكون من قوميات مختلفة، وأديان متبانية، ومذاهب متنوعة، فلا بد أن تسير العملية السياسة بصورة صحيحة، أي لا يمكن لجهة ما مهما علا شأنها، وارتفع مقامها أو لجماعة أو مكون أو حزب ولو نال أكثر مقاعد البرلمان أن يتفرد بالسلطة، فهنا طرح الرئيس بارزاني مشروعه السياسي الوطني والذي سميته (بالمثلث السياسي) الذي يتكون من دعائم ثلاث:

1.  الشراكة.

2.  التوازن.

3.   التوافق.

 فالدعامة الأولى وهي الشراكة من أهم الدعائم، لأن ثمة فرقا بين أن تشارك في الحكومة لتنال وزارات محددة، وبين أن تشارك في صناعة القرار واتخاذه في القضايا الاستراتيجة والوطنية والمصيرية، ففي السابق كانوا يمنحون وزارات معينة في الحكومة للكورد لأجل إضفاء الشرعية الوطنية على النظام، ولم يكونوا مشاركين في القضايا الاستراتيجية والمصيرية والوطنية، في صناعة القرار واتخاذه، وخاصة فيما يخص شعب كوردستان، خذ مثلا الشخصية الكوردية الراحلة طه محي الدين معروف فقد عين نائبا لرئيس الجمهورية في عهد أحمد حسن بكر سنة 1975، وبقي في منصبه إلى سقوط النظام، أي شغل المنصب لمدة (28) ثمانية وعشرين عاما، ترى ما الذي قدمه طه محي الدين لشعب كوردستان، فقد كان هذا المنصب الرفيع لإضفاء الشرعية على نظام البعث، في كونه يمثل نظاما وطنيا، وبعبارة أخرى كان هذا المنصب مفيداً للنظام أولا، ثم للشخص المكلف ثانياً.

أما الدعامة الثانية فهي التوازن، ومعنى ذلك وجود الكورد في جميع مؤسسات الدولة وليس في الحكومة فقط، ففي بداية العراق الجديد وعند تشكيل الحكومات كان التوجه صحيحا في تطبيق مبدأ الشراكة، حيث كنا نجد الكورد في أكثر المؤسسات حسب حجمهم، ولكن بعد مرور سنوات وخاصة في ولاية المالكي الثانية بدأت سياسة الإقصاء والتهميش، فقد كان رئيس أركان الجيش من حصة الكورد، وقد ذهب المنصب لغيرهم،  وهكذا بدأت سياسية الإقصاء في المؤسسات العسكرية، وليس فقط تجاه الكورد، بل حتى ضد السنة أيضا، حيث تجد وزارة كاملة لا كوردي فيها ولا سني، فعندما لا يبقى توازن في مؤسسات الدولة، يضعف الانتماء بل قد يختفي، واليوم يشعر مواطنو كوردستان أنهم غرباء في الدولة العراقية، وليسوا شركاء.

عندما طرح السيد المالكي مشروعه الذي أسماه بالأغلبية السياسية رفضناه، لأن المشروع في حقيقته سيؤول في نهايته إلى مشروع طائفي، لأن أبناء كل مكون سيصوت لطائفته، وهذا هو الواقع، فالناخبون الشيعة سيصوتون لمرشحيهم الشيعة، وهم من حيث الواقع يشكلون الأغلبية، فالأغلبية السياسية في الحقيقة أغلبية طائفية، وهكذا السني والكوردي، لأننا لم نصل إلى مرحلة الدولة الوطنية، بل لا زلنا في مرحلة التقسيمات الطائفية والمكوناتية والقومية والحزبية، ومتى ما وصلنا إلى مرحلة الدولة الوطنية الديمقراطية فإن أفضل مشروع لإنجاح العملية السياسية هو الأغلبية السياسية، لأن الدولة الوطنية لا تتعامل مواطنيها على أسس دينية ومذهبية وقومية، بل تعترف بها وتحترم خصوصياتها الطبيعية، وتحافظ عليها، فالتنوع الثقافي والديني والعرقي وجه حضاري لأي بلد، وعنصر قوي له، إذا كان ثمة من يملك الحكمة في استغلالها بصورة طبيعية صحيحة وسليمة.

الدعامة الثالثة والأخيرة التوافق، هذه الدعامة لا تصلح لبلد يتكون من قومية واحدة وديانة واحدة، بل هي صالحة فقط للدول المتعددة القوميات والأديان والطوائف والمذاهب، مثل العراق وسوريا ولبنان وتركيا وإيران، لأن التعويل فقط على رأي الأكثرية إجحاف بحق الأقليات، ففي العراق مثلا لو اعتمدنا مقاعد البرلمان، فالكورد لا يمكن لهم أن ينالوا حقوقهم الدستورية، وعند تشريع القوانين لا يمكن التعويل على مقاعد البرلمان، بل لا بد من طبخة سياسية تسبق جلسة البرلمان، أي لا بد من معرفة رأي شعب كوردستان، ومعرفة رأي السنة، وكذلك رأي بقية المكونات، حتى يستقر البلد، ولا يشعر مكون بالتهميش والظلم،  وهنا أكد الرئيس بارزاني في ضرورة مراعاة مبدأ التوافق، لأن هذا البلد صنعه الاستعمار الغربي(بريطانيا وفرنسا) سنة 1921 ولم تصنعه الشعوب العراقية بقرار جماعي في جلسة ودية، بل إن الاستعمار الغربي قد ظلم شعب كوردستان عندما  فرض عليه سنة 1924 استفتاء جائرا، وخيارا مرّاً، حيث فرض عليه هذا الاستفتاء (هل تريدون الانضمام إلى تركيا أم تريدون الانضمام إلى العراق)؟ ولم يمنحه حق تقرير المصير كبقية الشعوب التي استقلت، وفق المعاهدات والقوانين الدولية، وعليه يجب تطبيق مبدأ التوافق في القضايا الاستراتيجية والوطنية والمصيرية، وذلك حتى لا يتفرد أحد بالسلطة، ولا يتجرأ أحد في تغيير هوية الدولة، والمؤسف حقا أن هذا المبدأ كسابقيه لم يُطبق، بل أُهمل، وبقدر تهميش تلك المباديء الثلاثة(المثلث السياسي) تدهورت العملية السياسية وتضعضعت، وتخلف البلد وتقهقر، ولن تصلح العملية السياسية بتاتا، ولن يستقر البلد إطلاقا ما لم يلتزم الفرقاء السياسيون بهذا المثلث السياسي، (وهل يستيقم الظل والعود أعوج)، والأدهى من ذلك والأمرّ ظهور شرذمة حديثي العهد بالسياسة لا يعرفون شيئاً عن هذه المباديء، ولا يعيرون اهتماما بالدستور، ولا يحترمون نضال زعماء قدموا الغالي والنفيس في سبيل العراق الجديد، بل لا يعرفون شيئا عن تاريخ العراق السياسي، وهم الآن يتصدرون المشهد السياسي، وقد وصلنا إلى مرحلى التفاهة حيث حل الأصاغر مكان الأكابر.

لقد أدرك البارزاني خطورة الوضع في العراق سنة 2010 حيث أطلق تحذيرا  في كون العراق يتجه نحو الهاوية والدكتاتورية، وقد قال آنذاك: ماذا يفعل شعب كوردستان بعد أن فقد الأمل بالعراق الجديد، هل يعود إلى النضال المسلح من جديد بعد أن قضى عقوداً في هذا الطريق، أم أن ثمة حلاً آخر بعيدا عن النضال المسلح، ولهذا طرح الرئيس بارزاني فكرة الاستفتاء كحل سلمي لهذه العلاقة المتوترة بين بغداد وأربيل، في سنة 2015 زار الرئيس بارزاني واشنطن مع وفد كوردستاني رفيع، والتقى بالرئيس باراك أوباما، وتحدث معه بصراحة عن حق شعب كوردستان الطبيعي في الاستقلال، فقال أوباما: (إني أتفهم طموح شعب كوردستان في الاستقلال)، ثم قال إن الملف الكوردي عند نائب الرئيس جو بايدن، ثم التقى البارزاني ببايدن: فقال له جون بايدن: (أنا وأنت، نحن الاثنان سنرى في حياتنا وبأعيينا استقلال كوردستان)، أصبح جون بايدن رئيسا، ولم يتحقق شيء، وانسحب من سباق الرئاسة، والأمر في تصوري لا علاقة له بالأشخاص بل بالمؤسسات الأمريكية الرسمية، متى ما رأت مصلحتها في تحقيق الاستقلال تحقق ذلك بين عشية وضحاها، كما حصل في تيمور الشرقية، في سنة 2016 زار البارزاني بغداد مع وفد كوردستاني رفيع لبحث مستقبل العلاقة بين بغداد وأربيل، ولكن كالعادة يعد الجميع بحل المشاكل، ويتفق الجميع، ثم عندما يصل وفد كوردستان أربيل، وربما في الطريق تنهار الاتفاقيات ويتنصل الفرقاء عن وعودهم، ولا ريب أن التدخلات الخارجية هي التي توتر هذه العلاقة، فالبلد بحاجة إلى سيادة حقيقية، ولا بد أن يأتي يوم يقرر العراقيون بأنفسهم مستقبلهم، ويقرروا من يصبح رئيسا للوزراء ورئيسا للجمهورية ورئيسا للبرلمان، وبسبب تلك التدخلات الخارجية يتأخر دائما تشكيل الرئاسات الثلاث، وثمة أسباب أخرى لا مجال لذكرها، هنا رأى البارزاني أن الوقت قد حان لكي يصارح شعبه، وأن بغداد لا تريد حل المشاكل، ولا تطبق الدستور إلا انتقائيا، وأن ما ناله شعب كوردستان لا قيمة له مقابل تلك الدماء الزكية التي أريقت في سبيل الحرية والعدالة، ونحن لم نناضل من أجل المناصب والمغانم، بل ناضلنا لأجل قضية شعب ووطن وثقافة وتاريخ ولغة، من المخجل حقا أن نضالنا التاريخي الطويل أصبح لأجل رواتب تأتي من بغداد بطريقة مهينة جدا، وكأننا قدمنا أنهرا من الدماء من أجل الرواتب، ولهذا رأى البارزاني أن الوقت قد حان لكي يقرر شعب كوردستان مصيره، فمن حق أي شعب تقرير مصيره، وهذا ليس مخالفا لدين ولا لقانون ولا لدستور، فنحن اتحدنا مع العراق جبرا وقسرا وظلما، وقد ورد في ديباجة الدستور: إن الالتزام بهذا الدستور يحفظ للعراق اتحاده الحر شعبا وأرضا وسيادة، لهذا في 7 حزيران سنة 2017 قررت رئاسة الإقليم والأطراف الكوردستانية وممثلو المكونات تحديد 25 أيلول سنة 2017 لإجراء استفتاء كوردستان بصورة رسمية، لأنه سبق أن أجرينا استفتاء غير رسمي سنة 2005 حيث نال الاستفتاء الأخير نسبة 98.8 ، وفي الاستفتاء الثاني الرسمي نال نسبة 92.73، وقد أدرك المجتمع الدولي رغبة شعب كوردستان في الاستقلال، لكنه لم يؤيد ذلك، بل وصل الأمر إلى معاداة هذا الشعب المناضل والمظلوم عبر التاريخ.

لا أرى أي مستبقل مشرق للعراق مهما حاول الفرقاء السياسيون، فالتدخلات الخارجية واضحة، وتشريع القوانين الطائفية مستمرة، وإصدار قرارات مجحفة بحق المكونات جلية، والمليشيات المسلحة مسيطرة، والطائفية المَقيتة منتعشة، والعلاقة بين بغداد وأربيل هادئة وليست مستقرة، وأكثر السنة راغبون في تشكيل إقليم خاص بهم، فعندما نريد للعملية السياسية أن تبقى وللأمن المجتمي أن يستقر، وللتطور أن يستمر فلا بد من الالتزام بهذا المثلث السياسي الذي يدندن حوله الرئيس بارزاني كثيرا في خطاباته ومواقفه وتصريحاته وكتاباته.

 

Top