محطات من ذاكرة ستويوهات الاذاعة الكوردية في ذكرى تأسيسها الخامسة والثمانين
جمال برواري
لعلنا لا نغالي اذا قلنا ان بث الفترة الكوردية في اذاعة بغداد في بداية الامر انعطاف في الاعتراف بأهمية شعب له مقوماته وتراثه، وفي مرحلة مهمة في تاريخ الفن الكوردي نحو التطور، ولا سيما الاغنية الكوردية، كما نستطيع ان نقول لولا الاذاعة الكوردية لضاع الكثير من التراث والفولكلور الكوردي، فضلا عن تطور وصقل مواهب الكثير من الفنانين .
الاذاعة الكوردية كانت تضم في معظم فتراتها عدد غير قليل من المناضلين الذين كانوا لايتمنون الا الخير لابناء شعبهم، ونقيض من كان ينظر اليهم بعين عدم الارتياح .
الحديث عن صرح مهم هوى ودام اكثر من سبعة قرون أمر مهم لتوضيح الكثير عنها للاجيال الحالية واللاحقة، لان هناك جيلا كاملا يجهل الكثير عن هذا المرفق الحيوي، الذي كان يلعلع في يوم ما وكان محل اعجاب الكثيرين، وينتظرون افتتاحه على انغام صوت القبج.
اذاً من الانصاف ان نسلط بعض الضوء على دور الاذاعة الكوردية خلال عمرها الطويل، رغم ما قيل ويقال والشكوك التي كانت تحوم حولها والانتقادات الموجهة اليها .
برامج الاذاعة الكوردية كانت تسعى الى اشاعة روح القومية والثقافة والادب الكوردي وبلغة كوردية سلسة وسليمة بحيث يفهمها الكل وبدون تعقيد .
انطلق البث الكوردي ولمدة خمس عشرة دقيقة في 29-1-1939 بثاً حياً وعلى الهواء مباشرة .
كنت مستمعاً لهذه الاذاعة، وانا طفل في الخمسينات، شاءت الاقدار ان اقف خلف مايكروفون هذه الاذاعة في بغداد، وانا طالب في المرحلة الثالثة في كلية الاداب - جامعة بغداد عام 1972بعد تطور مساحة بثها واقسامها، والتطور التي حصل فيها بعد اتفاقية الحادي عشر من اذار، لتصبح مديرية لها اقسامها كبقية الاذاعات الاخرى واذاعة الام، اذاعة بغداد العربية .
قدمت العديد من البرامج المسموعة والجماهيرية، وابرزها برنامج مع المستمعين الذي استقطب جمهورا واسعا من المستمعين، عبر الاتصالات المباشرة مع المستمعين، وليكون اول برنامج مباشر في تاريخ هذه الاذاعة، ووسيلة تواصل بين المستمعين عبر رسائلهم الصوتية عبر التلفون، ورسائل تحمل نتاجاتهم وافكارهم الادبية والفنية، واجراء لقاءات عبر مايكروفون البرنامج مع الفنانين والادباء، ولايزال البرنامج عالقاً في اذهان الكثير من مستمعيه، عندما التقي بهم يذكرونني بفقرات البرنامج .
ذات مرة اتصل بي احد مستمعي البرنامج وقال :ان برنامجك وقصيدة الدكتور بدرخان السندي الهب الحماس والشعور القومي الكوردايتي لدى الالاف من الشباب، والتحقوا بصفوف البيشمركة، كنت قد استخدمت قصيدة الشاعر الدكتور بدرخان السندي (سەر ئەڤراز چومه شكاكا ناڤ مێرخاس و مێرچاكا ) كمقدمة لبرنامج يومي .
كانت الاذاعة الكوردية تبث اغاني رمزية تتغتى بالقضية شعبنا الكوردي وتمجدها، ولفنانين كبار امثال تحسين طه واياز زاخويي وفؤاد احمد ومحمد جزا، ومن كلمات شعراء كبار، كلمات الشاعر مؤيد طيب والدكتور بدرخان السندي كانت تتغنى بكوردستان (اغنية دەستار و چ بكەم ئەز ) كانت من المعلقات التي الهبت الحس القومي الكوردايتي والتي استقطب جمهوراً واسعاً من مستمعي الاذاعة الكوردية .
الاذاعة الكوردية كانت مدرسة ادبية فنية ثقافية، وكان لها الدور الوطني والكوردايتي المشهود ويشهد على ذلك الادباء والكتاب والشخصيات الكوردية، وهم الآن في مراكز متقدمة من المسؤولية، وأخرجت الاذاعة الكوردية كوادر اعلامية، وهم الان يخدمون الاعلام ويعملون في القنوات الاعلامية الكوردستانية .
اردوان زاخويي وكيف مررنا كلمات اغنية كادت تؤدي بنا الى السجن؟ في قمة حملة ترحيل وحرق قرى كوردستان جاءنا الفنان اردوان زاخويي، ومعه كلمات اغنية وفي اخر مقطع من الكلمات اشارة واضحة الى قيام النظام بحرق القرى والمزارع (لقد أحرق الاعداء المزارع والحقول والقرى ولم يبق لي شيء) احد الزملاء رحمه الله في لجنة فحص الكلمات، عندما قرأ نص كلمات الاغنية قال هذا النص سيؤدي بنا الى السجن، قلت له هذه فرصتنا سوف نوقع النص ونمرره، مررنا النص وسجلت الاغنية وتم بثها عشرات المرات .
تكرر المشهد في الكلمات التي جاء بها الفنان عبدالله زيرين من كلمات الشاعر محفوظ مايي، وكانت تتغنى برحيل البارزاني، ومررنا الكلمات وسجلت الاغنية وتمت اذاعة الاغنية عشرات المرات.
ذات مرة كنا في جولة وفي ايام اندلاع ثورة گولان وفي قرية (بربهار )سجلنا لقاء مع احد الاطفال في المدرسة، طلبنا منه ان يغني لنا اغنية يحبها فغنى اغنية للفنان شفان پرور (ئەز دێ هەرم شەڕ هەڕم جەنگ- انا اذهب الى القتال ) وكان يقصد بها البیشمركة، وقد اذيعت الاغنية ضمن برامج الاطفال، في حین لو یكن يتجرأ احد ذكر اسم الفنان الثوري شفان برور والذي يجرأ فمصيره الاعدام .
الكثير من الرسائل التي كانت ترد الى برامج الاذاعة، كنا نعلم ان مرسليها هم من البيشمركة، وهم في جبهات النضال .
"ذكرتني الشاعرة پریزاد شعبان عندما كانت مستمعة لبرنامجي (مع المستمعين ) وهي في مرحلة المتوسطة، وقالت لي :اتذكر كنت اقرأ قصائد صبرية هكاري ضمن فقرات برنامجك، وكنت ارسل تحياتي الى اقربائي وخوالي وهم كانوا بيشمركة، قلت نعم كنت اعرف واعرفهم .
الاخ البیشمركة ريڤنك هروري ذكرني ببعض فقرات برنامج مع المستمعين وبرامج اخرى، وهو كان يراسل الاذاعة الكوردية، وهو في خنادق النضال، وقال كنا نستخدم برامج الاذاعة الكوردية وسيلة للتواصل، وكانت تحمل رموز تنظيمية وقصائد تمجد وتدعو الى النضال والحس القومي .
اكتفي بهذه المحطات من ذاكرة ستوديوهات الاذاعة الكوردية، وهناك محطات اخرى تبقى عالقة في الأذهان، وسؤال عن مصير عشرة الاف شريط من النوع الصغير والكبير والايمي، والتي تحمل الاف الاغاني والموسيقى الكوردية، واللقاءات الارشيفية مع الادباء والكتاب والشعراء والشخصيات الكوردية ؟ويا ترى من يعيد الحياة لهذا المرفق الثقافي الكوردي ؟؟؟