حرب غزة وصراع الوكلاء في المنطقة
عبداللطيف موسى
إن البحث في ماهية الصراع المتمثل بالحرب الإسرائيلية والحركات الجهادية في غزة وتأثيراتها الجيوستراتيجية على المنطقة والعالم تقودنا الى التحليل المنطقي في دراسة الأسباب والدوافع الحقيقية التي مهدت لاندلاع هذا الصراع، الذي تشكل نتيجة التنافس على توسيع النفوذ، والسعي الى إحداث تغيير في أحادية الولايات المتحدة وإنهاء هيمنتها وتفردها في إدارة الصراعات في العالم، من دون إيجاد الحلول المناسبة المستندة على الستراتيجية الأميركية الطويلة الأمد التي وضعها هنري كيسنجر، المتمثلة في تغذية الصراعات والنزعات من دون إيجاد الحلول في الإنهاء لدعم إبقاء اليد الطولى لأميركا ووضعها في خدمة مصالحها.
لربما جملة التغييرات التي حدثت في العالم من أحداث الحادي عشر من أيلول وسقوط نظام صدام حسين ولدت الاعتقاد السائد والرغبة العالمية في إنشاء أقطاب موازية ومنافسة للقطب الأميركي وهيمنته على العالم في صعود روسيا كقوة عالمية عبر استعادة دورها في قيادة المعسكر الاشتراكي، وتعاظم قوة الصين الاقتصادية وظهور الأفكار الأيديولوجية المذهبية، والسعي الى إنهاء الأفكار القومية ووضعها في خدمة المشاريع المذهبية الطائفية.
إن تعاظم قوة إيران في تنفيذ مشاريعها مستفيدة من الأزمات المندلعة في الشرق الاوسط ولدت الرغبة الأميركية في إغراق تلك الدول بالفوضى، عبر استغلال الرغبة في التغيير ومواكبة الحداثة التي فرضتها ديكتاتورية الأنظمة الحاكمة لعقود من خلال الربيع العربي وظهور التنظيمات الجهادية، وكذلك تعاظم دور حركة حماس وحزب الله والحوثيين والحشد الشعبي على حساب صعود حالة اللادولة على حساب الدولة القوية المركزية.
إن هذا السرد في البحث عن جوهر وماهية الصراع في المنطقة والاستناد عليها هي أحد أهم الدوافع التي مهدت الأرضية لاندلاع نزعات كثيرة في المنطقة، ولكن النزاع الأكبر الذي وضع المنطقة في تصعيد خطير لربما يدخلها في حالة نزاع أكبر واندلاع حرب أوسع بين تلك المحاور هو حرب غزة المتمثلة في الحرب بين الحركات الجهادية في غزة وإسرائيل، التي يجمع عليها كافة خبراء السياسية والعسكرة الدولية بأنه سيكون شرارة نزاع يقود العالم والمنطقة الى حرب كارثية مدمرة على مستويات عديدة، ومن منطلق منظوري التحليلي لجوهر الصراع بين الحركات الجهادية وإسرائيل فإنها حرب تدار بالوكالة من قبل دول عديدة يتناوب الوكلاء في أداء الأدوار الموكلة لهم، وأن هذه الأدوار تختلف بما تلائم المصالح التي تقتضيها استراتيجيات الدول المولدة للصراع .
أن كلاً من حماس والقسام وحزب الله والمليشيات العراقية المنتشرة في العراق وسوريا والحوثيين ينفذون ما يطلب منهم كوكلاء وأذرع لإيران، والتي لا يخفى دورها المباشر في هذا النزاع رغم ما يحاول مسؤولوها نفيها بشكل مستمر، ولكن قراءة الدور الإيراني الذي يتحكم في الإيقاع المنضبط من خلال القنوات الاستخباراتية مع الدول الاخرى الفاعلة في الصراع، كما أن الأميركيين لم يخفوا دعمهم المباشر لإسرائيل في أولى أيام اندلاع النزاع عبر تحريك حاملات طائراتها وأساطيليها البحرية من خلال الحلف الذي بدأ يتكشف معالمه من خلال اتخاذ الوسائل لوقف هجمات الحوثيين وتهديدهم سفن الملاحة العالمية، وكذلك الدور الروسي غير المباشر الساعي لإضعاف وتشتيت الدور الأميركي عن دعم الأوكرانيين في حربهم مع روسيا، كما أن سعي الولايات المتحدة لتقويض نفوذ التنين الصيني الذي ازداد مؤخراً في المنطقة عبر طريق الحرير الذي بدأت المنطقة تتلامس نتائجه من خلال مصالحه مع السعودية وإيران واشراك نظام الأسد في الجامعة العربية، كان من الممكن أن تتلامس المنطقة نتائج أخرى منها تصالح التركي مع نظام الأسد وفك معضلات وإيجاد حلول للنزاعات في المنطقة كانت أميركا تقف موقف المتفرج في إدارة تلك الأزمات دون إيجاد الحلول لها، الأمر الذي شكل تهديداً حقيقياً لستراتيجية كيسنجر في اطالة أميركا للأزمات وإدارتها من دون إيجاد الحلول لها.
كما أن إسرائيل بحد ذاتها وجدت نفسها مضطرة الى الدول في هذا الصراع الذي ومن خلال وجهة نظري تدفع ثمن مقايضتها واستغلالها لتلك الأزمات لمصلحتها من خلال تعاونها مع روسيا في التغاضي عن تمدد المليشيات الإيرانية الى الجنوب السوري، واستغلال دور حزب الله في لبنان لصالحها من خلال ترسيم الحدود، والحصول على حقل نفط قانا وكاريش وإبقاء لبنان في الفوضى لصالح غض النظر عن تعاظم دور حزب الله قوته في المنطقة، وكذلك دخولها في تفاهمات مع نظام الملالي في طهران عبر وسطاء وقنوات استخباراتية، الأمر الذي كشف عنه ترمب في معارضة نتياهو في مقتل سليماني وأمور أخرى ستكشف عنها قادم الأيام من تفاهمات استخباراتية من خلال عدم جدية إسرائيل في معاداة إيران وعدم تجاوز الخطوط الحمر من التقرب من النظام في إيران ودعم انتفاضات الشعب الإيراني، وطبعاً ضبط إيقاع مشاركة الوكلاء في الصراع وأشكال وحجم مشاركتهم يوحي بأنه ثمة تفاهم من تحت الطاولة من قبل القوة التي تدير تلك الأذرع في ضبط إيقاع مشاركة وحجم انخراطها، من خلال توقيت وحجم ومستوى هجمات حزب الله والمليشيات العراقية والجبهة السورية ودور الحوثيين، وكذلك دقة أهداف أسرائيل وشكل عملياتها وطبيعة دور الموساد والشباك في العمليات والاغتيالات وتحديد الأهداف.
أن تفاهمات أميركا وتسليمها العراق لإيران بعد خروجها من العراق، ولا ننسى دور مبعوث أوباما للشرق الأوسط بريت مكغورك مهندس صناعة المليشيات في المنطقة والسماح بتمدد نفوذ إيران في المنطقة وتحديداً بتسليم العراق وسوريا لبنان واليمن وحماس الى إيران، وكذلك الدور البريطاني المنسق مع أميركا وإيران في إدارة ملف كركوك ومناطق أخرى في الشرق الأوسط خفية وجملة أخرى من تفاهمات لا يتسع الوقت لذكرها في هذا المقال، تكشف بأن الحرب في غزة تدار بالوكالة من أجل توسيع النفوذ وصراعات الأجندات بين القوى والمحاور العظمى .
في المحصلة يمكن القول بأن الحرب في غزة هي شكل من الصراع يدار بالوكالة عبر توزيع الأداور للوكلاء والأذرع في المنطقة، يناسب ويلائم مصالح وصراع النفوذ للقوى والمحاور العالمية المستفيدة من صناعات الازمات في العالم، ولكن السؤال الأهم الذي يراود مخيلة القارئ الكريم إلى متى سيبقى هذا الصراع الذي يدار بالوكالة؟ وهل سيبقى ذي إيقاع منضبط؟ وإلى متى سيبقى الوكلاء والأذرع بانضباط لا يخرج الصراع ليمتد الى صراع شامل تقود المنطقة والعالم الى كارثة مدمرة؟.
روداو