في العراق تضرب الأمثال وتقاس!
كفاح محمود
يتمتع العراقيون بكافة مكوناتهم واطيافهم بل ويتميزون عن كثير من الشعوب بوفرة امثالهم التي تعبر عن قصص او حكم او تختصر تجارب ونصائح، ومثلها أيضا ما تسمى عراقيا بـ (الحسجة) التي تتميز بها مجتمعات وسط وجنوب العراق، وهي نوع من أنواع البلاغة في القول والشعر كما أنها تختزل في أماكن أخرى مقولة (إياك أعني فاسمعي يا جارة) بأسلوب فكاهي أو على شكل تساؤل عن بعد، وفي كل المعاني هي وبقية الأمثال صيغ متقدمة من صيغ التعبير عن الرأي وتصوير لقطات واقعية من حركة الفرد والمجتمع.
وفي مقالنا هذا سنتناول واحد من تلك الأمثال التي تطرقنا اليها في مقال سابق قبل سنوات وهو (لا تطلب الدبس من النمس)، وللوهلة الأولى وأنا استمع لهذا المثل العراقي ظننته يقصد ذلك الحيوان الذي يرعب الأفاعي ويصطادها بسرعة مذهلة، لكنني أدركت فيما بعد أن الدبس والنمس مفردتان شكٌلهما الدارج المحلي للتعبير عن الرجاء الذي ليس في محله، وقد تداولتهما الأجيال في توصيف أولئك الذين لا يرتجى منهم خيراً، والدبس هو عصير التمر المعروف، أما النمس فهي مفردة لها معاني عديدة وما يعنينا واحدة من تلك المعاني وهي النتانة وليس الحيوان المعروف كثيرا في افريقيا وجنوب شرق آسيا، والنماسة تعني الوساخة أي عدم النظافة تحديداً، وهي بالتالي تعني النتانة في السلوك السياسي اذا ما تم تكييفها في توصيف التعاطي السياسي المنحرف!
وإذا كانت الامثال تضرب ولا تقاس للتخلص من حرج المعني بـ (إياك أعني فاسمعي يا جارة) فإن المستنقع الذي صنعته بعض القوى الممغنطة بالشمولية وعقلية تكثيف السلطة بيد فرد او مجموعات ميليشياوية على غرار ما مر به العراق منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا، فأنها هنا تضرب لتقاس على أولئك الذين يصرون على إبقاء كرة المشاكل السياسية تتدحرج لتكون عائقاً امام تطبيق الدستور ومواده الفيدرالية وتمنع ردم الحفر والعوائق امام تبليط الطرق بين بغداد واربيل!
وما يحصل اليوم من كر وفر ومن جولات مكوكية بين الإقليم والحكومة الاتحادية في بغداد وتوقيع اتفاقيات وتفاهمات، لا يكاد حبرها يجف حتى يتم الإيعاز الى فرق الأغلبية في البرلمان كي تلغيها وتنقلب عليها، كما حصل في تشريع قانون الموازنة أو قبلها في اتفاقيات كثيرة مع بغداد، لتصبح مهزلة ومسرحية مثيرة للأشجان والسخرية معاً، حيث توهم البعض أن الطاقم الحاكم الحالي في العراق قادر على حل تلك الإشكاليات التي صنعتها الدولة العميقة منذ استحواذها على كراسي السلطة باستخدام سلالم صناديق الفتاوى والطائفية والسحت الحرام وديمقراطيتها العرجاء، ونجحت في تنفيذ مشاريع أزمات واشكاليات لتحقيق الأهداف المنشودة في إقامة نظام أيديولوجي ذي خلفية دينية مذهبية، وإلغاء ما جاء في الدستور، بعد فرض نظام الأغلبية الذي يتيح لهم تشريع قوانين او رفض اتفاقيات مع الإقليم، بل ويطمحون لتعطيل الدستور ومحاولة افراغه من مضامينه الفيدرالية من خلال تجريد الإقليم من صلاحياته بفرض حصار اقتصادي عليه واللعب على معاشات موظفيه وإشاعة الفرقة بين احزابه ومكوناته السياسية.
إن ما يجري اليوم وتداعيات الوضع الإقليمي يؤكد أن المشهد القادم لن يكون أفضل مما مضى إن لم يكن أسوء، حيث تبلور نظام شمولي فوضوي بأذرع ميليشياوية مشرعنة تمتلك أذرعاً متنفذة في البرلمان ومفاصل الدولة المهمة وجهازها المالي تسبب في انهيار الدولة التي تعود اليوم الى المربع الأول حيث تعجز أي قوة داخلية من إحداث تغيير جذري في طبيعة هذا النظام المعقد كما كان نظام صدام حسين، حيث وقعت البلاد تحت احتلال كان يفترض أن يكون محرراً لكنه للأسف بعد عقدين من الزمان جعل ثلثي السكان يحنون الى وحشية النظام السابق بعد ان غدت دولتهم واحدة من أفشل دول العالم وأكثرها فساداً تحت وطأة حكم نماسة الميليشيات!