من شمولية النظام إلى صبّينة السياسة
كفاح محمود
عانت ولا تزال معظم دول الشرق الأوسط وما شابهها من شمولية أنظمة الحكم وتفردها بدكتاتور اوحد او حزب قائد، ورغم كل عمليات التجميل التي صاحبت هذه الأنظمة بإضافة مؤسسات كارتونية تحت شعار الديمقراطية الا انها بقيت أسيرة العقلية الشمولية، رغم انها رفعت شعارات الديمقراطية الاشتراكية او المركزية لكنها لم تتجاوز شموليتها حتى وهي تؤسس أحزاب وجماعات معارضة مستنسخة لإظهار وجود رأي آخر شبه مختلف كما حصل في العراق وسوريا وإيران منذ عقود.
وإزاء هذا النمط من محاربة قوى المعارضة الحقيقية وإفراغها من مضمونها سواء باستنساخها او تصفية عناصرها في ظل نظام بوليسي مخابراتي محكم، أدركت انها غير قادرة تماما على إحداث تغيير نوعي في طبيعة تلك الأنظمة من خلال العمل المتاح لها في مساحات ضيقة جدا وربما مهيمن عليها، فاختارت واحدا من خيارين اما حمل السلاح وبدء حرب عصابات او الهروب الى الخارج والعمل من خلال الصحافة والاعلام، وللأسف ومع بعض التأييد لتلك المحاولات الا انها هي الأخرى لم تنجح في تغيير تلك الأنظمة حتى تدخل الطرف الثالث (الدولي) كما حصل في كل من إيران ومن ثم أفغانستان وبعدهما العراق وما تلا ذلك في ليبيا وتونس واليمن وافغانستان ثانية وغيرها.
إن ما حصل بعد التغيير الذي ازاح هيكل إدارة تلك الأنظمة لم يتجاوز الفوضى لأنه فشل في تغيير ثقافة المجتمعات التي ادمنت الشمولية في نظاميها الاجتماعي والسياسي، وتم غسل ادمغتها بشعارات وأفكار وسلوكيات طيلة عقود من الزمن، حيث ترسبت فيها أفكار وسلوكيات تلك الأنظمة، وبدأت بعد سنوات قليلة من التغيير استخدام اليات الديمقراطية المفترضة لإيصال مجموعات وكتل طارئة الى مواقع السلطة دونما اختيار حقيقي حر من قبل الشعب، وبتأثير بالغ وهيمنة قبلية ومذهبية بل ومناطقية، ناهيك عن الدور الكبير للمال السياسي وثقافة المحسوبية والمنسوبية التي حولت معظم مؤسسات الدولة ووزاراتها الى امارات قبلية او مذهبية واجتماعية من ذات انتماء مسؤوليها، حتى غدا كثير من السلوكيات في تلك المؤسسات اقرب الى صبينة سياسية وإدارية أطاحت بهيبة الدولة ومؤسساتها ورموزها.
إزاء هذا النمط من الحكم فقد المواطن الكثير من آماله وتطلعاته في نظام بديل مختلف عن الأنظمة السابقة، خاصة وانه واجه بعد التغيير الفوقي صراعا على السلطة بين مجموعات متناحرة تمتلك اذرعا مسلحة مهيمنة وتمتلك أسلحة وتمويلا خارجيا وداخليا، مما أهلها لتسلق سلالم المؤسسة التشريعية والتنفيذية من خلال هيمنتها على صناديق الاقتراع وإرهاب الأهالي او تخديرهم بشعارات دينية ومذهبية وقبلية أدى إلى ارباك عملية تأسيس نظام جديد حتى وصل الامر الى أن تحولت تلك المجموعات الى دولة داخل الدولة، تمتلك سجونا ومحاكم واستثمارات مالية وفرض ضرائب واتاوات جعلت المواطن المجروح من دكتاتوريات الأنظمة السابقة، يحن اليها بل يتمنى للأسف عودتها الى الحكم الشمولي وقوة الدولة والقانون على حكم مهجن تتقاسمه الأديان والمذاهب والعشائر ومجموعات مسلحة لا هوية لها ولا انتماء الا إرهاب الأهالي والهيمنة على مقدراتهم تحت شعارات مخدِرة، مستغلة العمليات الإرهابية لمنظمة داعش التي أصبحت تمنح هذه المجموعات شرعيتها بغياب الدولة وضعف مؤسساتها العسكرية والأمنية.
المشكلة لم تعد مشكلة نظام شمولي أم ديمقراطي، بل هي في النظام الاجتماعي والتربوي للمجتمعات واعرافها المتوارثة.
باسنيوز