مسرحية مقرفة، هل لها من نهاية؟
طارق كاريزي
اضطررت لأن أخطاب دولة رئيس الوزراء العراقي في اليوم الأول من عيد الفطر المبارك. خطاب مشروط ومرهون بصعوبة الوصول مباشرة الى السيد محمد شياع السوداني ومقابلته وجها لوجه، كي ابلغه خطورة الوضع في مناطق واسعة من العراق بسبب تراكم زمني متواصل لمشكلة مزمنة جذورها تعود لستين عاما قبل الآن، لذا كان خياري الوحيد رسالة مفتوحة عبر الفيسبوك، عسى وأن يصل صوتي الى الرجل التنفيذي الأول حاليا في العراق والماسك بأوامر القوات المسلحة العراقية والشؤون المدنية كافة، وذلك من خلال رجل مخلص في مكتبه أو من يتوسم في ذاته القدرة على ايصال الأصوات من باب الحرص على استقرار البلد الى دولة رئيس الوزراء.
المشكلة باختصار موروثة من العهود السابقة، لكن تلقي بظلالها وبقوّة على الأوضاع العراقية الحالية، وهي مصدر صداع دائم لجميع السلطات المحلية في محافظات عراقية عدة والسلطات الاتحادية في بغداد ايضا. مسؤولية معالجة هذه المشكلة المزمنة تقع على عاتق القادة السياسيين الذين يتصدرون المشهد الآن. ليس من المنطق ولا هو يتوافق مع العدالة، ان يقدم عراقيون وفي اليوم الأول من العيد باقتحام قرية عراقية ليجبروا سكانها على التنازل عن حقوق ملكية أراضيهم لأناس تم استقدامهم لأغراض استيطانية غير بريئة بل مشبوهة قبل عقود من الآن.
بيت القصيد هنا قرية بلكانة التابعة لمحافظة كركوك، حيث اقتحمها مستوطنون من العراقيين العرب وهم ينوون تهجير سكانها من الفلاحين العراقيين الكورد. والمشكلة غير محصورة في قرية واحدة فقط، بل ان مشكلة ملكية الأراضي قد ورثت عن السلطات السابقة وهي مشكلة عريضة موجودة في العديد من المحافظات العراقية، خصوصا نينوى وكركوك وصلاح الدين وديالى وغيرها، حيث قامت سلطات البعث خلال 35 عاما بتهجير سكان مئات القرى الكوردية قسرا وصادرت أراضي المزارعين من العراقيين الكورد، ومن ثم قامت تاليا بتوزيع هذه الأراضي على العراقيين العرب الوافدين من المحافظات العراقية ذات الأغلبية العربية، والغاية المعلنة من هذا الأجراء التعسفي الذي يتقاطع بشدة مع أسس المواطنة وحقوق الانسان، هي تغيير الواقع السكاني لمناطق واسعة من اقليم كوردستان العراق كانت تعتبرها الحكومة العراقية قبل عام 2003 حيوية تستوجب تصفية التواجد الكوردي فيها من أجل ضمان تبعيتها للعراق الى الأبد، وهذا منطق عنصري يتنافى مع اسس المواطنة والعدالة والحق والمساواة.
للمعلومات فقط، فقد تم كسح وتدمير 779 قرية كوردية في كركوك ابان وقبل حملات الأنفال في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي وخلال عقدين قبل ذلك. ومع زوال النظام الشمولي، وجد المهجرون الكورد في المدن والريف الكوردستاني الفرصة مواتية من اجل استرداد حقوقهم المغتصبة، وقد تداركت النخب السياسية خلفيات المشهد وتداعياته الخطرة، عليه تم تبني فحوى المادة 58 في قانون ادارة الدولة العراقية، ومن ثم تثبت خارطة طريق لحل هذه المشكلة في المادة 140 من الدستور العراقي لعام 2005 المتمثلة باجراءات أقرتها المادة تتلخص بالتطبيع والاحصاء وتنتهي بالاستفتاء. ومسألة ملكية الأراضي كتب لها المعالجة ضمن الخطوة الأولى من ثلاثية المادة 140 من الدستور تحت مسمى التطبيع.
تعثر تطبيق الحل الدستوري جعل هذه القضية مفتوحة الآفاق وهي بمثابة اللغم الموقوت القابل للانفلاق في أي لحظة. وهذا يعني أن هناك بؤرة توتر اجتماعية تدفع الى صراعات قد تتطور الى صدامات بين العراقيين، في حال عدم معالجتها بشكل جذري. ومن الحكمة المبادرة الى حل هذه الاشكالية واعطاء كل ذي حق حقه. ومن المفيد الاشارة هنا الى ان المادة 140 من الدستور تعاملت مع العرب الوافدين (المستوطنين) من منطق الضحية، باعتبار قدومهم جاء ضمن خطة فخ نفذتها السلطات العراقية السابقة لعام 2003، وهم غير ملمين بجزئيات قدومهم من حيث كونها كانت على حساب مواطنين آخرين من بلدهم. ولهذا نجد ان الدستور العراقي (2005) قد أقرّ تعويضات مجزية لهؤلاء المستوطنين الوافدين كي يعودوا الى المحافظات الأصيلة التي قدموا منها، بشكل يستطيعون فيه اعادة تنظيم امور حياتهم من جديد.
تكررت حالة قدوم المستوطنين من العراقيين العرب ومهاجمتهم لقرية بلكانة لمرّات عدة خلال السنين الماضية، والأمر غير محصور في هذه القرية فقط، بل نحن أمام أزمة عميقة ضخمة تستوجب الجهد الاستثنائي وقرارات جريئة من قبل مجلس النواب ومجلس الوزراء العراقي، ليتم فيها ابطال قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل وبما يضمن حسم الأراضي المتنازع عليها بحيث يعطى لكل ذي حق حقه. تكرار المشهد مع ما يرافقه من توترات وتشنجات اجتماعية تنذر بتطورات غير محمودة، باتت بمثابة المسرحية المقرفة التي تشمئز منها النفوس، وافضل الحلول وأنجعها هو اعادة الحقوق الى أصحابها الشرعيين وقلع هذه المشكلة من جذورها والى الأبد، فهذا الأمر ان جرى انجازه، يعد خطوة مهمة نحو ارساء السلم الأهلي والمجتمعي في العراق.