السلاح الأيدولوجي أخطر من السلاح البيولوجي
د.عرفات كرم ستوني
طبيعة الدول الايدلوجية وخاصة الدينية أنها تلجأ إلى جميع الوسائل في حربها، وفرض هيمنتها وسلطتها وأيدلوجيتها لتحقيق مآربها السياسية، وخاصة في توظيف الناس والجهات والمؤسسات والشخصيات لهذا الغرض، ولهذا وجدنا ألمانيا النازية استعانت بالمسلمين المتطرفين الذين فروا من بلدانهم وخاصة من الاتحاد السوفيتي سابقا، فقد تحدث الباحث الكندي أيان جونسون بتفصيل عن هذه المسألة في كتابه مسجد في ميونخ A Mosque In Munich حيث أشار إلى دور النازيين فى تطوير فكرة استخدام السلاح الأيدولوجي وذلك باستخدام المؤدلجين من المسلمين لأجل تخريب الدولة المعادية وإنهاء نظامها، خسر هتلر ولكن فكرته بقيت، حيث انتقلت من برلين إلى عواصم أخرى، وجرى تطوير السلاح الأيديولوجي ليصبح بعد حقب من أخطر الأسلحة التي تفتك بالدول والمجتمعات والعوائل، يقول العميل السري الروسي المنشق يوري بيزمنوف Yuri Bezmenov الذي توفي سنة 1993، (إن المؤامرة الايدلوجية أعنف من الحرب البيولوجية).
أستشهد هنا بما قاله الفيلسوف الصيني سون تزو Sun Izu كتابه فن الحرب The art of war :" انزف الكثير من العَرَق في السلم لتنزف القليل من الدماء في الحرب". يجب أن نعمل بكل قوة وجد في ظروفنا المسالمة لتنشئة جيل قوي متين يقاوم هذا السلاح قبل أن نواجهه ونحن لا زلنا في طور التنشئة والتهيأة والبناء.
يرى بيزمنوف أن تخريب أي دولة أو مجتمع يكون بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: نزع الروح المعنوية Demoralization تأخذ هذه المرحلة خمسة عشر عاما أو عشرين عاما، هذه المدة كافية لتخريج جيل يحمل الأيدولوجيا التي تنوي قتل الروح المعنوية في الشباب، وهي أيدولوجيا معينة تحملها الدولة التي تنوي التخريب من أجل السيطرة، وعملية التخريب والتدمير هذه تستهدف الأخلاق والانتماء إلى الوطن والرموز الدينية والتاريخية والشخصيات التاريخية واللغة والثقافة والحضارة.
المرحلة الثانية: زعزعة الاستقرار Destabilization بعد نجاح المرحلة الأولى تأتي هذه المرحلة التي تتطلب عامين أو خمسة أعوام لكي يقوم الجيل الذي حمل الأيدولوجيا المخربة بجلب الفوضى وعدم الاستقرار للبلد، حيث يريدون حلولا سريعة، فيلجأ إلى اختيار الساسة الجدد لحلحلة مشاكلهم، معتقدين أنهم بهذه الخطوة سيجلبون الحلول الناجعة لهم، مع أن تلك الحلول آنية ومؤقتة، وفي النهاية سيقعون في فخ الأيدلوجيا المخربة، فالأيدلوجيا المخربة هي التي أبرزت الساسة الجدد، وهي التي طرحت تلك الحلول، فالغاية التي تغياها الأيدولوجيا المخربة صناعة جيل لا يملك ذرة من الروح المعنوية كالانتماء وحب الوطن، واحترام رموزه الدينية والتاريخية، وكذلك ثقافته وعاداته وتاريخه وحضارته وجغرافياه وفنه وأدبه، وأخطر من هذا أن تلك الأيدولوجيا تقنع الجيل الجديد أن الحل عندها فقط أي عند الأيدولوجيا، وليس عند غيرها، فتشوه سمعة غيرها، ثم تقطع علاقة الجيل الجديد بالدول الصديقة التي تحاول مساعدته، وفي النهاية يصبح الجيل الجديد ضائعا، وبين فكّي تلك الأيدولوجيا.
المرحلة الثاثة: الأزمة Crisis وهي مرحلة تستغرق شهرين أو ثلاثة أشهر حيث تقوم الأيدولوجيا المخربة بتنشيط الخلايا التي زرعتها من أجل خلق الفوضى وعدم الاستقرار، وهنا تسيطر تلك الأيدولوجيا على عقول الجيل الجديد وتضعهم في مراكز القوة، وليس بانقلاب بل بانتخاب، حتى يقال أن ثمة ديمقراطية، وعندما يسيطر الجيل الذي صنعته، تذهب خيرات البلاد لتلك الأيدولوجيا، ويبقى الشعب في عيش رغيد لأنه نال حقوقه الأساسية، ولا يهم الجيل الجديد السيادة والانتماء والنزاهة وحب الوطن والتاريخ والأخلاق والكرامة، لأنه يعتقد أن ذلك كله يكمن في العيش الرغيد، فينشأ جيل كالأنعام تأكل وتشرب وتنام وتستمتع، وليس هذا فحسب بل سيصل الأمر به إلى أن يهزأ بجميع القيم الخلقية والدينية والعشائرية، وبمرور الزمن - إن لم نقم بواجبنا الخلقي والديني والقومي والوطني- سيتحول الجيل الجديد إلى عدو شرس يقف عقبة كأداء ضد أبناء جنسه الذين لا يريدون الخنوع والخضوع والذل والانصياع والصغار أمام الأيدولوجيا المخربة.
المرحلة الرابعة: التطبيع Normalization وهي المرحلة الأخيرة، حيث تحاول الأيدولوجيا تطبيع المواطنين على الوضع الجديد، وبعبارة أدق تبيئتهم وهذا هو الاحتلال السلمي، حيث بدأت بالعقول في المرحلة الأولى وترسخت في الحقول في المرحلة الأخيرة، ومتى ما شعرت الأيدولوجيا أن ثمة خطرا يهددها من قبل بعض المقاومين من الذين كشفوا زيف هذه الأيدولوجيا وخطورتها، فإنها ستكون قاسية جدا، لأن ذلك يهدد جهودها الجهيدة، ومصالحها الاستراتيجية وأمنها القومي. ولعل من المناسب أن نتحدث عن كوردستان، ألسنا نواجه خطرا حقيقيا من ظهور جيل جديد بيننا لا يؤمن بشيء، بل إيمانه وعقيدته في نيل ملذاته ومآربه، فنراه يكفر بوطنه ولغته وثقافته وعاداته ولباسه وفنه وتاريخه وحضارته وماضيه ونضاله، ويسخر من دماء البيشمركة ودموع الأمهات الثكلى، ويشتم مقدساته ورموزه الوطنية، ولا يدري هذا الجيل المسكين، أن وجوده الحقيقي في وطنه وثقافته ولغته وماضيه ونضاله، لا ضير أن ينقد هذا الجيل حكومته شريطة أن يكون نقدا رحيما بنّاء ومن قلب محب مشفق، لا نقدا رجيما من قلب حقود، فالنقد الأول يَبني ويُقبل ويُدرس، والثاني يخرِّب ويُرفض، أعرف أن شبابنا يواجه صعوبة في معيشته، ويرى خللا في بنية العدالة الاجتماعية، فهو يريد العيش الرغيد والحياة السعيدة وتكوين العائلة، وبناء بيت وشراء سيارة، وهذا من متطلبات الحياة الأساسية، ولكن عندما لا تستطيع تحقيق ذلك لا يمكن أن تتجاوز على وطنك الذي هو بمثابة أمك التي أرضعتك، ولغتك التي خلقها الله لك، وثقافتك التي كونها لك من سبقك، عندما أخرج كفار قريش رسول الله (ص) من مكة مسقط رأسه، لم يقل كلمة نابية بحق قومه الذين أخرجوه بل دعا لهم، ولم يبغض مكة، بل قال: والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت".
لقد كان لبعض الساسة الفاشلين دور كبير في صناعة جيل ساخط حاقد، يكره كل جميل، ويرفض كل تطور، ويهزأ من كل تقدم، بل وصل الأمر به إلى درجة أن يرحب بالاحتلال والأعداء، والأنكى من ذلك أن أحد علماء الدين فرح عندما توقف تصدير النفط الكوردستاني، وآخر يستبشر خيرا بضياع كركوك، ومنهم من عادى استفتاء كوردستان، وآخرون يفرحون ويؤيدون ما نشرته إحدى الصحف الأمريكية بوصف إقليم كوردستان بالإقليم الكارتوني، مع أننا بنينا هذا الإقليم على بحر من الدماء وأنهر من دموع أمهات الشهداء، نحن نواجه أخطر جيل في المرحلة الراهنة، ولهذا يجب أن نعلن حملة وطنية على جميع الأصعدة لمواجهة هذا الخطر في الجوامع والجامعات والمدارس، وجميع مؤسساتنا الحكومية والحزبية، ونحذر الشعب من هذه الطبقة السياسية الفاشلة التي صنعت جيلا ضائعا مشبوها، في وقت نحن بمسيس الحاجة إلى التكاتف والتضامن والتعاون لكي ننقذ بلدنا من المؤامرات الخارجية، ونصل إلى بر الأمان.
بإمكان السلاح الأيديولوجي أن يقضي على الشعوب عندما تجردها من هويتها الوطنية والقومية والدينية والثقافية والحضارية والتاريخية والاجتماعية ويمكن تسميتها باختصار بالهوية الوجودية، بيد أن السلاح البيولوجي لا يستطيع فعل ذلك، قد يقضي على عدد غفير من الناس، ولكن سيظهر نتيجة ذلك جيل جديد آخر متمسك بهويته الوجودية، وما أكثر الأمثلة في التاريخ، ففي حرب فيتنام مثلا استخدمت امريكا السلاح البيولوجي، وطالت الحرب بينهما، حتى انهزمت امريكا وانسحبت سنة ١٩٧٥، وقد خسرت امريكا ٥٨ ألف جندي وجرح ١٥٠ ألف، وقتل من الفيتناميين ملايين من البشر، وسلكت امريكا طريق السلاح الأيديولوجي، حيث بنت علاقة تجارية مع فيتنام، لتصبح أكبر الشركاء التجاريين، ففي استطلاع مؤسسة بيو لسنة ٢٠١٧ كشفت أن 76٪ من الفيتناميين لهم رأي إيجابي تجاه أمريكا من سن (١٥-٢٩)، ثم ارتفعت النسبة لتصبح 87% ما يفعله السلاح الأيدولوجي بالشعوب لا يمكن تصورها، فهو سلاح مسالم لا دماء ولا دموع ولا دمار ولا خراب، فهو أخطر بكثير من السلاح البيولوجي.