ضرورات الحوار الداخلي الإيراني
ازاد احمد علي
عندما زرت إيران سنة 2007 تفاجأت بالمستوى الحضاري لمجتمعاتها، كما تفاجأت بنظافة طهران كمدينة يتجاوز عدد سكانها عشرة ملايين نسمة، ومع ذلك لم ألحظ وجود أحياء لمساكن العشوائيات فيها، مثل أغلب عواصم المشرق. وظل سؤال جوهري يسيطر على ذهني ويشل حركتي في الشوارع وأمام المباني تلخص في: لماذا تعادي مجموعة من الدول الغربية إيران؟! وما السر، هل هو صراع الشرق والغرب القديم قد تجسد في هذه الصيغة الملتبسة؟ أم هو موقف مرتبط بحرص الغرب على الحريات وحقوق الانسان؟ هل ثمة مواضيع خفية أخرى؟.
لكن ظاهرياً، وبعد أن تبين لي أن أغلب السيارات التي تسير في شوارع طهران هي صناعة إيرانية حصلت على نصف الإجابة، وأثر زيارتنا كمجموعة من المهندسين للمحطة الحرارية لتوليد الكهرباء في محيط طهران حصلت على النصف الآخر من الإجابة، لأنه تبين لنا ان المحطة ستنفذ بالكامل بمواد وخبرات إيرانية محلية.
في هذا السياق لا بد من التذكير أن كل من اهتم بالشأن الإيراني قد أحاط بقصة إزاحة شاه إيران من الحكم سنة 1979، والتمهيد لحكم الملالي عهدئذ كان ذات علاقة بهذه الفكرة، وإن بصيغة أخرى. بمعنى استهداف الغرب لمسيرة التمدن والتصنيع والحداثة التي عمل لها محمد رضا بهلوي، والتي فجرها في جملة فاقعة واحدة في أحد خطبه (ان إيران العظيمة ليست نائمة).
هذا وقد اتضح لكل مهتم في العقود الأربعة الماضية أن تعامل الغرب عموماً واميركا خصوصاً مع المسألة الإيرانية تمخضت عنها افقار الشعوب الإيرانية ودفع سلطة الملالي الى مزيد من الأدلجة وقمع المعارضين واستبعاد القادة الإصلاحيين. حتى تفاقمت أحلام التوسع لدى تيار المتشددين، وصولاً الى تخريب المجتمعات العربية والهيمنة على قرار عدة دول في المنطقة. لذلك يمكن الترجيح والقول: لم يكن هدف حكومات أميركا واسرائيل يوماً لا اصلاح ولا تغيير حكم الملالي. ما يشجعنا على هذا القول هو السعي الدائم للسياسات والأجندات الغربية الى تحويل حراك الشعوب الإيرانية الى أداة ضغط على نظام الملالي من جهة وتخريب لأسس النهضة الإيرانية، بل حتى سد سبل الحياة الكريمة على الجماهير الإيرانية الفقيرة. من هنا وعكس اعتقاد الكثير من المتابعين للشأن الإيراني لا يمكن الرهان على أي تغيير جوهري في نظام الحكم في طهران ضمن المعادلات السائدة داخلياً وخارجياً، كما من غير المتوقع توفر أي دعم حقيقي وفعال لحركة الشعوب الإيرانية في وجه هذا الطغيان لاستكمال مسيرتها التحررية، ولتقويض العنف والتأسيس لمناخات الإصلاح. لذلك يبقى الحوار السياسي هو السبيل الأسلم لتحقيق إصلاحات متدرجة وتخفيض منسوب العنف داخل ايران وخارجها.
مناسبة هذا القول هي زيارة رئيس ايران لكوردستان الملتهبة قبل عدة أيام، فقد نقلت وسائل الاعلام جانب من زيارة الرئيس الإيراني (ابراهيم رئيسي) إلى مركز محافظة كوردستان مدينة سنندج، الحجة المعلنة للزيارة كانت عملية تدشين مشروع لمياه الشرب، لكنه في الواقع كان هنالك اقترح أن يعقد يوم الجمعة الثاني من تشرين الثاني اجتماع مع الأئمة الكورد (السنة) الذين طالبوا في بيان سابق وقف أعمال العنف ضد المتظاهرين، والذين يحركون الشارع الكوردي ويشرعنون الاحتجاجات ويشحنونها بطاقة روحية. فقد اشارت بعض المصادر الى أن رئيسي قد ذهب الى كوردستان كخطوة للتمهيد لشكل من أشكال الحوار، على الرغم من السمة الأمنية للخطاب الرسمي الإيراني، والاشارة الى الأعداء المتربصين بالثورة والقائد، الا انه تبدو هنالك إشارات إيجابية تمهد لتفاهمات ممكنة، اذ قال رئيسي مخاطباً أهالي كوردستان ودعاهم للوحدة: (ان الشيعة والسنة يعيشون معا في هذه المنطقة ويقفون ضد الأعداء...). كما لمح الى تحسين الأوضاع في كوردستان وبقاء باب الحوار مفتوحاً، اذ وعد بتكرار الزيارات الى كوردستان محاولاً طمأنة أهالي سنندج بالعمل على حل المشكلات والتحديات في المنطقة الكردية، خصوصاً مدينة سقز التي تتحدر منها الشهيدة أميني.
قد لا تكون خطوة نظام طهران صادقة، لكنها تظل مبادرة تنبثق من الخوف الشديد من طاقة التحريك الكوردية للشارع الإيراني عموماً، كما هو خوف من الثقل والدور التغييري الثوري لكوردستان في هذه المرحلة. إذ باتت سنندج مركزا للانتفاضة وملهمة لكل إيران بحكم كونها عاصمة لكوردستان الإيرانية وهي في الوقت نفسه ذات غالبية سنية، بل تعد مركزا للدراسات الإسلامية السنية في عموم ايران.
في ظل هذه الأجواء المشحونة بالعنف والغضب، وتحت سقف الممكن سياسياً، يبقى التفكير والعمل لفتح آفاق الحوار السياسي الداخلي في ايران مخرجاً للأزمة. على الرغم من أن المشهد معقد، وممارسات سلطة طهران دموية وقمعية، ومع كل ذلك الحوار الداخلي يبقى ويظل الطريق الأفضل نحو تحقيق مصالح الشعوب الايرانية. وقد تشكل الأرضية لبناء الثقة والتمهيد لتلطيف وتحسين الدور الإيراني في عموم المنطقة. فعلى القوى والأحزاب السياسية الكوردستانية الفاعلة، وخاصة الحزب الديمقراطي الكوردستاني في ايران (حدكا) أن يبادروا للحل السلمي، عليهم العمل بجدية للتأسيس لحوارات متوازنة. في حال تقدم المبادرة سيكون لحكومة إقليم كوردستان دور مؤثر في مسارها، كما يستحسن في هذا السياق أن يقوم رئيس إقليم كوردستان العراق السيد نيجيرفان البارزاني المعروف بمبادراته السياسية ورشاقته الدبلوماسية بدور مشجع وراع للحوارات الايرانية القادمة.
لقد بينت الأحداث والتضحيات الكبيرة التي قدمتها الشعوب الإيرانية وكل شعوب المنطقة في العقد الأخير أن طريق الحوار السياسي هو الأقل كلفة، ان لم يكن الأكثر قابلية للنجاح. فلم يعد خافياً على أي طرف إيجابيات الحوار وسلامة طريقه، فقد سبق لكل من تهرب من الحوارات السياسية في الأوقات العصيبة ان ندم، ودفع الأثمان بشكل باهظ. وهذه المرة على حكام طهران أن يدركوا أن الحوار يأتي لمصلحة الطرفين، وأن الاعدامات والقمع لن يؤدي بنظام طهران سوى الى الهاوية، ويدفع بكل إيران نحو الدمار.
روداو