أوكرانيا واللحظة المفصلية
عبد الحسين شعبان
منذ أن بدأت الأزمة الأوكرانية تتصاعد بالغزو الروسي في 24 شباط / فبراير 2022 وإلى اليوم ثمّة أسئلة كبيرة ومفتوحة ما تزال هي الأخرى تواجه الباحث، فأين موقع هذه الأزمة من الأزمات التاريخية؟ وما هو البعد القانوني والسياسي لأزمة من هذا النوع؟ ثم ماذا عن فلسفة الأزمات التاريخية؟ وأخيرًا ما هي الاحتمالات المتوقّعة بما سيترتّب على هذه الأزمة؟ وهل سيتمخّض عنها نظام دولي جديد؟
وإذا كان التاريخ يُعتبر أب العلوم فإن الفلسفة أم العلوم، فما بالك حين نلاقح التاريخ بالفلسفة، لنتوصل إلى ما يمكن أن يُفيدنا في التحليل ودراسة الواقع، وفهم المتغيّرات التي تحصل على نطاق العلاقات الدولية، تلك التي تُعتبر جزءًا من علم السياسة، الذي يعتبره أرسطو «ملك العلوم».
لقد زعزع الغزو الروسي لأوكرانيا العلاقات الدولية، بل أن النظام الدولي الذي تشكّل في أعقاب الحرب الباردة 1946 – 1989 انقلب على نحو مثير، فأوكرانيا دولة مهمة وموقعها استراتيجي، فضلاعن محصولها الزراعي من القمح الذي يسدّ جزءًا كبيرًا من الحاجة العالمية، وهي على مفترق طرق أوروبا وآسيا وبوابة مهمة لروسيا، لذلك كان الغزو الروسي لأراضيها إعلانًا لبدء عملية انقلاب في النظام الدولي، هذا الانقلاب الذي هدّد أنظمة الطاقة والانتاج والتوزيع والتمويل والغذاء، وأحدث أزمة عالمية لم تشهدها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الكتلة الاشتراكية.
ويعتبر الهجوم الروسي أخطر هجوم عسكري تقليدي سبّب صدمة كبيرةً في الغرب بشكل خاص وفي العالم بشكل عام، ودَقّ جرس انذار للنظام الجيوبولوتيكي المستقر نسبيًا، وهو النظام الذي تشكّل في أعقاب الحرب الباردة بين المعسكرين الإشتراكي والرأسمالي. ويمكننا اعتبار ما حصل في أوكرانيا نقطة تحوّل أوليّة أو ربما لحظة مفصلية تاريخية قد يعقبها اصطفافات جديدة، وبالتالي توازن قوى جديد، حتى وإن كنّا في حالة عدم يقين كامل، لكن نظام ما بعد أوكرانيا سيكون غير ما قبلها، حتى وإن أخذت أوروبا تعيد تسليح نفسها وحساباتها، بتضخّم ميزانيات الدفاع فيها، لكن نهاية الحرب في أوكرانيا ستحدّد ملامح النظام الدولي الجديد.
وإذا كان أحد لا يستطيع أن يتكهّن بما ستؤول إليه هذه الصدمة، فإن ثمة مؤشرات سبقتها واجهت النظام الرأسمالي العالمي بقيادة الولايات المتحدة، منها الحرب التجارية على الصين من جانب واشنطن، وشلل المنظمات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية وتأثيرات إجتياح فايروس كورونا 2020 ـ 2021، وصعود الشعبوية في العديد من الأقطار الأوروبية، مصحوبة بالعنصرية والعداء للأجانب واللّاجئين بشكل خاص، لاسيّما بعد الأزمة السورية، وتجلّت تلك بوصول دونالد ترامب إلى السلطة في انتخابات العام 2017.
النظام الدولي الذي تأسس بعد صلح ويستفاليا 1648 وضع قواعد جديدة تستبعد الإقصاء والإلغاء وأقرّ الاعتراف بالحريات الدينية واحترام استقلال الدول (المقاطعات) وسيادتها ومنع أي اضطهاد ديني أو طائفي والتعاون فيما بينها لإزالة الحواجز الاقتصادية والعوائق التجارية، وإنهاء الحروب الأهلية وعوامل التفتيت الداخلية.
يعتبر الهجوم الروسي أخطر هجوم عسكري تقليدي سبّب صدمة كبيرةً في الغرب بشكل خاص وفي العالم بشكل عام، ودَقّ جرس انذار للنظام الجيوبولوتيكي المستقر نسبيًا
وقامت حرب الثلاثين عاماً بين البروتستانت والكاثوليك (1618-1648) وهي استمرار لحرب المئة عام، لكن الثورة الفرنسية 1789 ضعضعت هذا النظام بأفكار جديدة ومحاولات توسّع إلى أن تمّ هزيمة نابليون في معركة واترلو، وأقيم نظام جديد لعب فيه ميترنيخ، السياسي النمساوي، دورًا كبيرًا في تأسيسه وقام على عدّة مبادئ منها: الحفاظ على ما هو قائم وإعادة القديم إلى قدمه وأبرم هذا النظام في العام 1815، واستمرّ إلى نحو 100 عام وإن باختراقات محدودة إثر ثورات العام 1848، أي إلى الحرب العالمية الأولى 1914 ـ 1919، فتأسست عصبة الأمم، حيث كان من نتائجها الهيمنة البريطانية الفرنسية كدولتين منتصرتين.
لكن ذلك لم يمنع من اندلاع الحرب العالمية الثانية 1939 ـ 1945، حيث انتهت باندحار النازية والفاشية وتأسست الأمم المتحدة 1945، ورافق ذلك قيام نظام دولي جديد أساسه القطبية الثنائية 1946 ـ 1989 / 1991، لكن هذا النظام انهار بفعل الصراع الأيديولوجي والحرب الناعمة والنفسية، وتحلل الاتحاد السوفييتي وأصبحت الولايات المتحدة اللّاعب الأول والاساسي في العلاقات الدولية، إلّا أن العدّ العكسي لهذا النظام أخذ يدور بسرعة منذ تورّط الولايات المتحدة باحتلال للعراق العام 2003.
وبدأت روسيا منذ العقد ونصف العقد الماضي تستعيد هيبتها بعد فترة هيمنت فيها المافيا واستشرى الفساد وتفشّت الفوضى، وصرّح الرئيس بوتين بضرورة قيام نظام دولي جديد منذ العام 2007 وهو ما تعمل من أجله الصين بحيث يكون أقل ثقلامن الماضي، خصوصًا بصعودها الهادئ اقتصاديًا وتكنولوجيًا وعلميًا وحتى عسكريًا. وتحاول الدولتان بناء تحالف أوسع بضم مجموعة البريكس إليها: الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وربما ستسرّع الأزمة الأوكرانية في ذلك.
والحديث عن نظام دولي جديد يعني:
أولاً ـ أنه سيكون نظام متعدد الأقطاب وإنهاء هيمنة القطب الأمريكي؛ وثانيًا ـ أن الصين ستكون فيه قطبًا أساسيًا، إضافة إلى روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ وثالثاً ـ أن الناتو ليس بإمكانه مجابهة روسيا عسكريًا وقد تبدو هذه المجابهة مكلفة، خصوصًا باستخدام الأسلحة النووية، وهو قرار على غاية من الخطورة لمن يتّخذه. وقد عبّر إيمانويل ماكرون عجز الناتو، بل موته دماغيًا.
كما لم تسفر العقوبات الاقتصادية عن تأثير كبير على البنية التحتية والعسكرية والاقتصادية الروسية، وبقدر تأثيرها على روسيا فإن تأثيرها على الغرب كان أكبر، إذْ ليس بالإمكان على الرغم من المساعدات العسكرية والمادية والإنسانية (الضرورية) القيام بمناورة ردًّا على الغزو الروسي لأوكرانيا، فليس باستطاعة الغرب التدخّل بزعم أن أوكرانيا ليست عضوًا في الحلف، وكانت الدعوة قد ارتفعت إلى حظر الطيران لكن عدم تنفيذها كان بسبب عدم الرغبة بالدخول بصراع مباشر مع روسيا حسب تبريرات حلف الناتو الذي يتجنّب، خصوصًا بعض دوله الخشية من اندلاع حرب عالمية.
الاحتمال الأكثر ترجيحًا هو قيام نظام دولي جديد مختلف عمّا سبقه بولاءاته القديمة وتوجّهاته الأيديولوجية، يأخذ بنظر الاعتبار المصالح الوطنية، وحتى يتعزّز النظام الدولي الجديد ويترسّخ ويتمّ الاعتراف به، فقد نكون لفترة أمام حالة اللّانظام، لكنه من المؤكّد أن هذه الحالة ستفضي إلى قيام نظام جديد يضع حدّاً للفوضى والصراعات وهيمنة المنطق الأوليغارشي ويقيم علاقات أقرب إلى التكافؤ.
كاتب عراقي