• Saturday, 20 April 2024
logo

قتل الأستاذ "أبشع جريمة في التاريخ"

قتل الأستاذ

معد فياض

 

خبر صادم يتصدر مواقع الأخبار.. خبر ليس عادياً أو اعتيادياً على الإطلاق.. طالب مفصول من الجامعة يقتل أستاذين في جامعة صلاح الدين! لا تقولوا لي وما الصدمة في الموضوع، فأخبار القتل والاغتيالات في العراق صارت مجانية.. أب يحرق نفسه وأبناءه.. أم ترمي بطفليها في نهر دجلة.. زوج يفجر زوجته بقنبلة يدوية.. قناصة تابعة لأجهزة أمنية أو ميلشيات تقتل وبلا رادع  المئات من شباب انتفاضة تشرين.. عشائر تحارب بعضها بالأسلحة الثقيلة.. سأقول إن الصدمة في خبر اليوم هي أن طالباً فاشلاً دراسياً يقتل عميد كلية القانون وأستاذاً بكلية الهندسة في جامعة صلاح الدين، قتل الأول لأنه رفض إعادته للجامعة، وقتل الثاني انتقاماً من زوجة الأستاذ التي يعتقد أنها تسببت في فصله.. يتوجه وبإصرار إلى عمادة كلية القانون بجامعة صلاح الدين ليطلق خمس رصاصات من سلاحه نحو عميد الكلية ليقتله مع سبق الإصرار والترصد، قبل أن يتوجه إلى بيت الأستاذ في كلية الهندسة بذات الجامعة ويلاحقه بدم بارد حتى سطح بيت الجيران ليرديه قتيلاً.. كل هذا لأن قوانين الجامعة تمنع عودته إلى الدراسة بعد فصله، وكان على استعداد لقتل أساتذة آخرين ليدفعوا بدمائهم ثمن فشله.

 

الصدمة هنا هي مقتل الأساتذة على يد طالبهم الفاشل دراسياً.. ونحن نعرف ماذا يعني وصف الأستاذ، أو البروفسور، وكم من جهود وسنوات طويلة بذلها ليصل إلى هذه المرتبة العلمية الرفيعة.. الأستاذ الذي هو مرب وأب ومعلم، تُهدر حياته وتحرم عائلته من وجوده، كما يحرم مئات الطلبة من علمه، بل تخسره الجامعة والبلد بسبب فشل طالب تُعمى بصيرته فلا يجد سوى القتل وسيلة لانتقامه.

 

أعيد، وبأسف شديد قراءة الخبر: "تعرض عميد كلية القانون بجامعة صلاح الدين، كاوان إسماعيل، صباح اليوم الثلاثاء (28 حزيران 2022) إلى إطلاق نار أصيب على إثره بجراح ثم فارق الحياة نتيجة جراحه العميقة التي أصيب بها. وبعد إطلاق النار على عميد كلية القانون، هاجم الجاني أستاذاً في كلية الهندسة بجامعة صلاح الدين، هو إدريس عزت حمة خان، وقتله".

 

الخبر الصادم هذا ذكرني بوالدي الذي كان مدرساً للغة الانجليزية، نذر حياته لمهنة التدريس النبيلة، بعد أكثر من 30 عاماً طلبنا منه إحالة نفسه على التقاعد ليستريح، لكنه رفض بشدة، وقال "ومن سيدرس الطلبة؟ أنا أنذر خبراتي وتجاربي في التدريس ليتعلم الطلبة وعندما أتقاعد سأشعر بتأنيب الضمير". حدث ذات يوم من عام 1981 أنه أمسك طالباً يغش في الامتحان، وكان الغش بالنسبة له خيانة كبرى تعادل خيانة الوطن، ففاجأه الطالب بأنه أشهر في وجهه المسدس.. قابل والدي فوهة المسدس بصمت وبحزن عميق.. تساءل "كيف يمكن لطالب أعلمه وأتعب معه أن يشهر بوجهي مسدساً ليقتلني لأني أمسكته وهو يغش؟!". في اليوم التالي قدم طلب إحالته على التقاعد وقال "لقد انهارت العملية التربوية والتعليمية ولا تستحق أن أفني بقية سنوات عمري من أجلها".

 

لي هنا أن أذكر بأنه كان من أوائل من كرس لجريمة قتل المدرسين في العراق، عام 1954، هو صدام حسين عندما كان طالباً في الصف الثاني متوسط، عمره 17 سنة، في مدرسة ثانوية تكريت، عندما حاول قتل مدير الثانوية ليلاً بإطلاق النار على بيت المدير الذي اعتبره، واستناداً إلى القوانين، راسباً بصفه بسبب إهماله وتجاوزه المدة المحددة لغياباته (25 يوماً) ، فرد صدام حسين بمحاولة اغتياله. وكانت "أول جريمة" مخططة يقوم بها المراهق صدام في حياته ضد مدرسه.

 

يقول الكاتب الروسي، فيودور دوستويفسكي، في روايته (الاخوة كارمازوف)، "حذار..حذار، فإن جريمة قتل الأب هي أبشع جريمة في التاريخ"، ولي هنا أن استبدل (الأب) بالأستاذ، كون الأستاذ هو بمثابة الأب، لتكون المقولة: حذار..حذار فإن جريمة قتل الأستاذ أبشع جريمة في التاريخ. من هنا لنا أن نقول بأن ما يدفع طالباً لقتل مدرسه أو أستاذه الجامعي هو الخلل في القيم التربوية والأخلاقية، ومن يستسهل قتل أستاذه فلا مانع عنده من أن يقتل والده أو أمه أو عمه، أو زميله أو زميلته، أو أي فرد في المجتمع، وبالتالي فإن مثل هذه الجريمة موجهة ضد المجتمع كله وليس ضد الأستاذ أو هذا الطالب أو تلك الطالبة، وهي أيضاً جريمة ضد المؤسسات التعليمية الأكاديمية، الجامعة، التي تعد أرقى التشكيلات التعليمية والفكرية والأخلاقية في كل المجتمعات، وتعد، أيضاً، تهديداً لوجود هذه المؤسسات ولحياة العاملين فيها ولمن يرتادها وينتسب إليها.

 

مثل هذه الجرائم الصادمة، وغير العادية، والمخلة بأخلاقيات المجتمع والتي تتسبب بردات فعل مضادة وعنيفة، يجب معالجتها بأسلوب رادع حفاظاً على القيم الأخلاقية وأرواح الأساتذة والطلبة وعلى سمعة المؤسسات الأكاديمية، منعاً لانتشارها واستسهال تنفيذها. وهنا أدعو جميع الجامعات والأكاديميات العراقية بأن تعلن الحداد على رحيل الأستاذين الجامعيين، كاوان اسماعيل، وإدريس عزت حمةخان، شهيدي العلم والمعرفة، احتراماً للعلم وللمهنة النبيلة.

 

 

 

روداو

Top