الاحتدام الايديولوجي بعد الاستقلال الوطني العراقي
طالب محمود كريم
ما نشهده اليوم في راهننا العراقي من انقسام شعبي أو انعزال اجتماعي، هو امتداد للفترات السابقة التي هي اكثر ضموراً في تجليات الصراع.
ويدفع بنا هذا إلى إجراء عملية تفكيك تاريخي، يبيّن بواعث الانتشار السياسي والتفاعل الاجتماعي مع هذا الانتشار، والكشف عن انشطار الجغرافية العربية بشكل عام والعراقية بشكل خاص.
ان هدف المقال هو الكشف عن معرفة الاسباب التي تقف وراء التوجهات الشعبية نحو الايديولوجيا السياسية، والاطلاع على غياب ممارسة النقد عند الناشط السياسي الذي يتبنى موقفاً سياسيا عملياً، هذا الغياب الذي أنعكس بدوره على بناء الشخصية السياسية، حتى حوّلته الى اداة طائعة لا تملك قراراً ولا رأياً عابراً لستراتيجيات العمل الحزبي.
أود ان أبيّن بعد هذا الى ان الانشطار الجغرافي الأيديولوجي، اعاد من ظهوره مرة أخرى، ليس في العراق فحسب، بل في عموم العالم العربي، وتحديداً بعد حقبة الاستعمار والاحتلال، فترة الاستقلال السياسي الوطني.
لا يخفى على الدارسين في حقل الفكر والسياسة، ان نمط التفكير الديني (احد اطراف الصراع الايديولوجي) حينما تزاوج مع النمط السياسي في واقعنا المعقد، كشف عن سرّ ضعف الاطروحات والحوارات (الدين هو الحل)، والتي غالباً ما تطرح بطريقة احجيات منطقية /صور القياس لدفع احجية الآخر. بات هذا من خلال صناعة مقدمات مشحونة بمفاهيم مغلوطة وجعلها بمثابة مصادرات في سبيل اقصاء فكر الآخر واقناع الناس البسطاء. وهذا ما اشار له ابن رشد حين ارجع مكنون المشكلة الى الخطاب الشعبوي الفاقد لشروط المنهجية العلمية بحسب لغة اليوم. والالتجاء الى اسلوب المقارنات التي تعتبر جيدة الى حدٍ ما، لكن في اغلبها ما هي الاّ إجراءات نظرية منطقية تمارس كنشاط ذهني، مع قياس بالفارق او سالبة بانتفاء الموضوع او تناقض المحمول مع الموضوع كما يعبرون.
ويعود هذا الضعف الحاصل الى الخطاب الديني السياسي الفاقد لشروط العقل السياسي وآلياته المؤسسة على علم السياسة او الفلسفة السياسية. ويمكن وصف المضمون على انه مجموعة توليفات يراد منها ان تنسجم مع اللحظة الراهنة، قافزة على مبادئ القيم الثابتة.
نجد في احايين كثيرة، ان بعض الأفكار السياسية التي تنسب الى حقل الفكر الديني، يتم طرحها على انها يمكن ان تمثل حلولاً لمشكلات الدولة والمواطن، من خلال ايجاد نظرية سياسية تمثل اقراراً بالعقل الديني،الراهن، الفاعل، والشاعر بتحولات المنطقة ومتغيراتها، التي تنذر بمستقبل معيّن يُحتم على المنظرّين، صناعة بديل استراتيجي يعمل على ديمومة العلاقات الدولية والاقليمية. لكن عند الفحص والتدقيق في مجمل الاطاريح نجد انها تتجه نحو تفسير الحياة والفعل السياسي الذي يساوي الاخلاق في المنظور الديني، وهذه قاعدة اخلاقية تلزم الفاعل او المشتغل السياسي ان يقدم المبادئ الاخلاقية على المتغيرات السياسية حفاظاً على جوهر الدين ومثله العليا. يعني ذلك ان يتم التعامل مع المتغيّر وفق الحد الاعلى للثابت (الخير والفضيلة والحق والعدالة والواجب)، وهنا تكمن صدمة اللحظة حينما يظهر العجز في تماهي المتغيّر مع الواقع وفق قاعدة الثابت القيمي الاعلى. عندئذ تبدأ حالة تقديم التبريرات والبحث عن قضايا التاريخ لتعضيد الفعل السياسي الديني والحؤول دون ايقاع فجوة بين الرمزيات والجماهير.
ليست المشكلة في قدرة العقل الديني ومرونته القابلة في احتواء المتغيرات والتعامل معها، بل ان أُس المشكلة يعود الى اخضاع العقل الى مقولات دينية (قَبْلية) يسبق نشاط الكشف والنقد، بمعنى آخر انه مسلّم قبلياً لشروط المعادلة المحكومة سلفاً. وما المحاولات الاخرى التي تحاول ان تتجه نحو النزعة الاستقلالية التي تحافظ على شروط الكشف والمنهجية المحكومة بشرط المتغيرات، والتوافق بين العقل السياسي ومنهج الفكر الديني، ماهي الا محاولات خجولة ومؤقتة. لانها لم تستطع الصمود امام البناء التاريخي للمدونة الدينية وغاياتها. يعني هذا انها لم تستطع ان تتجاوز حدود الجدران المانعة للمقول التاريخي/الميتاسياسي والذي يعتبر بمثابة الروح والمحرك للجماهير .
كما ان التراث العراقي الفكري هو الآخر لا ينفصل عن محيطه العربي والاسلامي، اذ ان بعد العودة الى بواكير تاسيس النظريات الفكرية في المنطقة العربية، نجد انها مرّت بمرحلتين هما:
- تاريخ الاستقلال السياسي الى سؤال النهضة.
- تاريخ بناء الدولة والحضارة الى تاريخ مواجهة النظريات الفكرية المعاصرة.
يعني ذلك ان السؤال العراقي قد عاش حقبة طويلة من الزمن ورافق ازمة ارهاصات احتلال المنطقة حتى تداعيات أزمة الهوية.
يرتفع هذه المرة سؤال النخبة الفكرية الوطنية هو:
ما هي الخطوات والسبل التي تعمل على إحياء الشعور الوطني واحترام مؤسسات الدولة والالتزام بتطبيق القوانين؟
على اثر هذا السؤال تنوعت الاجابة في عدة اطاريح، ومنها قد بينت ان مشروع النهضة يمكن ان ينهض من خلال شروط النهضة بعبارة مالك بن نبي. يضاف الى ذلك ان قضية البناء والاصلاح يمكن له ان يتحقق من خلال اعادة مشروع تكوين العقل العربي بحسب عابد الجابري، أو بالعمل على احياء عامل الدين (التراث -الماضوية - السلفية) الذي يتميز بمساحته الواسعة وجمهوره الكبير او المنظومة الفكرية الإجرائية العلمانية على الطريقة الاركونية. وبعض آخر ذهب الى انتزاع الاستقلال الفكري والثقافي الذي يؤشر الى حالة الابداع على طريقة ناصيف نصار.
أما في تاريخنا العراقي الحديث والمعاصر فقد تفرعت الاطاريح في توكيد الهوية، حيث توزعت الى:
1- الاطروحة الدينية التي توائمت مع محيطها الفكري العربي.
2- الاطروحة القومية التي كانت امتداد للمفكرين القوميين وخارطة ارض الخصيب - كوردستان الكبرى.
3- النظرية الاجتماعية التي حاولت تفكيك الوجدان الذاتي المتخفي في السلوك الانساني كافراد وجماعات ومحاولة الوقوف عند محركاتها لاكتشاف المستقبل .
4- الايديولوجيات السياسية ومن اشهرها (الشيوعية). اما بقية الاحزاب السياسية التي عملت على علمنة منهجها وخطابها السياسي، اذ انها ادمجت بين عقيدتها السياسية والعلمانية.
فتمثل مشهد الصراع الفكري الايدولوجي بين الاحزاب السياسية الدينية /الاسلامية والشيوعية من جانب والقومية العربية/العلمانية من جانب آخر. ومن اللافت ان العامل المشترك بين هذه الاتجاهات الفكرية هو العامل الايدولوجي السياسي الشمولي (مسلّمة الحتمية التاريخية ونهاية التاريخ). وما يفرقهم هو العامل العَقَدي الايماني الذي يقف وراء رؤيتهم للعالم. (يمكن ان نتناول هذه الفقرة بشكل مفصل في مقالة اخرى او ندوة ما).
تداعيات الصراع بين القوى السياسية اخذَ بعداً سيكولوجيا ساهم في تعميق ازمة الذاكرة وارتفاع منسوب التعاطف الاجتماعي مع تداعيات ازمة الصراع.
اذ ذهب الموضوع الى اكثر من ذلك حين انقسم المشهد الاجتماعي الجغرافي المناطقي بحسب الانتماءات السياسية، بمعنى اخر ان هناك مناطق كثيرة ثَقُلت سيكولوجيا تحت عنوان التسويق الايدولوجي، وكانت هذه بمثابة الشرارة التي تختفي تحت الرماد.
هذا التوصيف المرحلي للتاريخ العراقي لم يكن هو النموذج الوحيد الذي يمثل حالة الاحتدام، بل كانت المنطقة العربية والاسلامية، هي الوجه الاخر لاحتدام الصراع.
وعلى اثر ذلك كانت الاجابة عن سؤال النهضة الاجتماعية وقيام الدولة والبناء والعمران، هي من خلال النظرية السياسية وشكل الدولة، يعني هذا ان سيرورة البناء تبدأ من مِعْول الدولة القابضة على كل مصادر الثروات والمصالح وقوى القرار .وهذه الفرضية عززت من دوافع الاحزاب نحو السيطرة والغلبة والاخذ بمقدرات الدولة من اجل تنفيذ برامجها السياسية واتساع قواعدها الجماهيرية.
تَطور الاحتدام الى صراع اعلى، عندما أنتقلت الأيديولوجيات من عالم الافكار الى منصات القرار وانفاذ القوانين، اي من النظريات الى التطبيق.
فكل فكرة ايديولوجية تعشقت مع دعواها، فهناك من يرى ان هذا التحول ما هو الاّ نصر من الله، وهناك من يعزو دعائمها الى ارادة الشعوب، واخر ادعى انها ايقاع تاريخي منضبط تحت قوانين حتمية التاريخ. ومن بين كل هذه العناوين التي تستحق الوقوف عندها مرة اخرى، والتي تشرح اهدافها وغايتها بعد تفكيك مراحل الوعي الاجتماعي العراقي وادوات انتقال الوعي ومحركاته، تقف الجماهير امام عمل مقارنة صامتة لا تعلن عنها، لانها في الذهن محلها.
اذ انها تجمع الصور وتدوّن المشاهدات وتسمع المبررات وتقارن بين الفعل والتنظير والنظرية والتطبيق، لتطلق اخيراً حكم قيمة حول المرحلة برمتها.
روداو