هل وقع بوتين في الفخ الذي نصبه له الناتو في أوكرانيا؟
علي تمي
حرصت روسيا منذ عام 2014، على القيام بعمل عسكري في أوكرانيا، وخاصة بعد أن اقتطعت شبه جزيرة القرم منها وضمتها إلى أراضيها، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها دولة أوربية بضم أراض من دولة أخرى منذ الحرب العالمية الثانية.
تعتقد موسكو اليوم أن هناك روابط ثقافية ولغوية وعائلية تربط بين الدولتين، وكانتا جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق.
وتعد أوكرانيا ثاني أقوى جمهورية سوفيتية بعد روسيا، وكانت ذات أهمية ستراتيجية واقتصادية وثقافية، ومنذ انفصالها عن الاتحاد السوفييتي، تنافست كل من روسيا والغرب عليها، بغية فرض نفوذ أكبر عليها، ومن أجل الحفاظ على ميزان القوى في المنطقة لصالحهما، لاسيما وأن أوكرانيا تشكل بوابة ستراتيجية لموسكو نحو أوربا ومعظم صادراتها من الغاز تمر حصراً عبر هذا البلد، فجاءت فكرة ضم كييف إلى الناتو والاتحاد الأوروبي استفزازية بالنسبة لبوتين، وعندما وجد أن الغرب جادّون ومنشغلون في محاولة ضم هذه الجمهورية السوفييتية السابقة إلى الناتو فأعلن الحرب عليها، ودخل المستنقع الأوكراني ومعركة الاستنزاف من أوسع أبوابها .
دوافع بوتين للسيطرة على كييف
يرى الروس أن الرئيس الأوكراني (زيلينسكي) من أصول يهودية ومدعوم من الغرب بشكل مباشر، وبالتالي مع مرور الوقت سينضم هذا البلد إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وهي مسألة الوقت لا أكثر، وسيعملان على تقوية روابط القوة فيما بينهما، وبالتالي يعتقد بوتين أن وصول الناتو إلى حدود بلاده الغربية، ناهيك عن وجود عشرات قواعدها في رومانيا وبلغاريا وبقية دول البلطيق المحاذية لحدودها، سيهدد أمن روسيا ومصالحها القومية كقوة عظمى بشكل مباشر على المدى البعيد، فضلاً عن أن أوكرانيا تشكل اليوم بوابة ستراتيجية لتصدير صادراتها الطبيعية، وخاصة الغاز إلى أوربا، وتحديداً ألمانياً، ومن هنا وجدت موسكو نفسها أمام خيارين، إما وقف تمدد وانتشار الناتو على حدودها الغربية من خلال اجتياح عسكري لكييف والدخول في معركة استنزاف طويلة الأمد وغير معروفة النتائج مع الناتو داخل أوكرانيا، أو وقوف مكتوفة الأيدي وهذا ما لا يرغب به قادة الكرملين، ويبدو أن الخيار الأول، كان أقل تكلفة بالنسبة للروس رغم مرارتها وفاتورتها الباهظة.
لماذا حرضت واشنطن بوتين على غزو أوكرانيا؟
تاريخياً.. الأميركيون بنوا سياستهم العسكرية على المكر والمناورة والابتزاز، وهذا ما فعلوه مع صدام حسين عندما حرضوه على غزو الكويت في عام 1990 والنتائج باتت مكشوفة فيما بعد للجميع، أما اليوم فواشنطن بات يزعجها تحالف الضرورة بين موسكو وبكين داخل أروقة مجلس الأمن وابتزاز أوروبا من خلال تنسيق مشترك واجتياح آسيا اقتصادياً، ووصول الجيش الأحمر إلى ضفاف البحر المتوسط في سوريا بعد 2014، كل هذا دفع بالساسة في واشنطن إلى قناعة تامة بأنه في حال وقفوا مكتوفي الأيدي أمام الغزو الاقتصادي الصيني والعسكري الروسي سيحدث خلل في التوازن الدولي ومرحلة القطب الواحد ستزول وستفرز معها معطيات جديدة في الشرق الأوسط وشرق آسيا وستتاثر أوروبا مباشرة بالتغييرات الجيوسياسية، فدقت صافرة البداية من خلال دفع أوكرانيا للانضمام إلى الناتو لابتزاز موسكو وجرّها عسكرياً إلى حرب نتائجها وخيمة، وهذا ما حصل بالضبط.
الرئيس الأميركي جو بايدن يطمئن العالم اليوم بأن واشنطن لا يمكنها الدخول في معركة عسكرية مع موسكو، مبرراً ذلك بأن تداعياته ستكون خطيرة على الأمن العالمي، هذا صحيح من الناحية النظرية، لكن الذي لم تذكره حيتان البيت الأبيض في خطاباتهم وتصريحاتهم الصحفية، هو أن موسكو باتت تدفع اليوم 20 مليار دولار يومياً جراء غزوها لأوكرانيا، والسؤال الذي بات يطرح نفسه بقوة: من يحارب الجيش الأحمر اليوم داخل أوكرانيا حتى تكون تكلفة الحرب فيها كل هذه الفاتورة الباهظة؟
إذاً، كان الكثير من المراقبين يعتقدون أن الجيش الأوكراني يسقط يومياً العشرات من الطائرات الروسية الحديثة في السماء، وينسف المئات من الدبابات الحديثة على الأرض الأوكرانية، فهذا اعتقاد خاطئ والأصح هو أن الناتو دخل المعركة منذ يومها الأول.
فعلى سبيل المثال، لندن دخلت على الخط بعبقرية استخباراتها وتكتيكاتهم الحربية، واشنطن بدورها زودت كييف بأسلحة الرصد والتجسس وصواريخ ستينغر التي اصبحت "كابوسا أميركيا" يلاحق الجيش الأحمر أينما ذهب، وعلى غرار ما فعلتها في أفغانستان عندما قدمت نفس هذه الصواريخ إلى المتطرفين هناك عام 1986 فغيرت الموازين على الأرض وقلبت الطاولة على الجيش الأحمر، فما كان امامه إلا الفرار من أفغانستان.
أما ألمانيا فدخلت المعركة منذ يومها الأول أيضاً، فقطعت خط الغاز الروسي المستورد لها، وأرسلت خبراءها إلى أرض المعركة لمواجهة الروس في أوكرانيا، بينما أنقرة هي الأخرى دخلت أرض المعركة من خلال (البيرقدار) التي غيرت الموازين على الأرض رغم طمأنتها لموسكو بأن هذه المسيّرات تم بيعها سابقاً ولم تأت في إطار الدعم العسكري لكييف.
أما باريس فباتت منزعجة من محاولة بوتين اللعب بالتوازنات الدولية والإقليمية، فحسمت أمرها وقررت دعم الجيش الأوكرانى بخططها العسكرية وخبرائها الذين يقدمون الدعم اللوجستي لقوات النخبة الأوكرانية، اما تل أبيب فكانت لها حصة الأسد في حماية الرئيس الأوكراني ذو الاصول اليهودية، فالموساد احبط حتى الآن ثلاث عمليات للاستخبارات الروسية لاغتيال (زيلينسكي)، مع مشاركة خبراء سلاح الجو لدعم الدفاع الجوي الأوكراني.
بالمحصلة نستطيع القول: إن الناتو دخل المعركة عسكرياً وأمنياً منذ يومها الأول، ولولا ذلك لهرب الجيش الأوكراني الضعيف أصلاً منذ الطلقة الاولى من أرض المعركة، لأن المنطق يقول إن روسيا وقواتها العسكرية قوة عظمى، بالتالي جيش كالجيش الأوكراني ضعيف الذي باع أسلحته النووية لموسكو قبل ثلاثين عاماً وكان ثالث أكبر قوة نووية بعد موسكو وواشنطن، لا يستطيع الصمود أمام الروس ولو ليوم واحد .
الخلاصة، واشنطن نصبت اليوم فخاً لبوتين، وبشكل جيد ومدروس داخل الساحة الاوكرانية، فهذه الحرب مصيرية للجميع، وبالتالي فتح باب اللجوء للأوكرانيين، وحشد الآلاف المتطوعين لقتال الروس داخل أوكرانيا ومن كل أصقاع العالم، والدعم الغربي العسكري واللوجستي اللا محدود لكييف، كل ذلك يوحي بأننا أمام معركة استنزاف طويلة الأمد، والاعتقاد السائد هو أن بوتين وقع في الفخ الذي نصبه له بايدن الماكر داخل أوكرانيا، فخياراته باتت محددة، وخاصة حليفه الصيني لازال في وضع صامت، ويراقب الوضع عن كثب من الزاوية الجانبية، واعتماده على المجنون والمتهور في كوريا الشمالية والمفلس في دمشق لن ينقذه من حيتان الغرب لأنهم يستفردون به اليوم في أرض المعركة، وبالتالي تلويح وزير الخارجية سيرغي لافروف بورقة النووي لمواجهة واشنطن هو دليل آخر على الإفلاس والخشية من الغرق في المستنقع الأوكراني أكثر فأكثر.
بناءً على كل ما ذكر فإنه لا خيار أمام موسكو إلا الإنسحاب من المستنقع الأوكراني في أقرب فرصة وعلى بوتين أن يدرك أن التنين الصيني لازال في موقف متفرج والمراهنة عليه كان تهوراً ومواجهة كل هذا الحشد العالمي جنون وغباء سياسي ويدفع بالشعب الروسي إلى مستقبل مظلم لأبنائهم، وعلى بوتين أن يدرك أيضاً أن محاولة تكرار تجربة العراق في أوكرانيا غير واقعية ومنطقية فعليه أن يعلم أن (زيلينسكي) ليس عربياً ولا مسلماً، فبالتالي المغامرة في أوكرانيا لإسقاط رئيس يهودي لن يكتب لها النجاح وعليه أن يدفع ثمن تهوره وجنونه كما حصل مع صدام حسين في العراق في عام 2003.
روداو