الاتحادية بين السيادة والسياسة
طارق كاريزي
يبدو ان المعادلة "الكوردية- العراقية" تأبى القرار والاستقرار، عصية على الرسو عند برّ الحل النهائي. والدليل على ذلك، نرى بعد كل تحليل موضوعي للعوامل الفاعلة في المشهد السياسي العراقي ومخرجاتها المتتالية، هي من ذات النمط والمعيار الذي بات تقليدا يتكرر حد القرف، حيث تتوصل النخب ذات العلاقة الى الاقرار بالأخطاء والسوء في الادارة والتعامل، وبعد جولات من التفاوض يتم وضع الحلول وفق رؤى متوازنة تتبلور ضمن اتفاقيات وعقود وتشريعات وقرارات وقوانين، تؤسس لعقد اجتماعي سياسي يرس العدالة بين الكورد وبغداد. واثبتت الوقائع بأن كل هذا البناء والتأسيس للعقود المتتالية يحمل في ذاته بذور الفشل، كون النيّة من جانب المركز منخورة بالشكوك والظنون، والاتفاقيات والتأسيس للعقد مع الكورد في كل العهود، تأتي من باب الاضطرار وليس من موقع القناعة والاقرار.
تجربة قرن من العيش الكوردي القلق في الدولة العراقية، تقدم لنا وبصيغة مملة تكرار سيناريوهات السلطة لجهة تعاملها مع المواطنين الكورد من باب الشك والسعي لفرض السطوة المفرطة المقرونة بالحرمان والاخلال بموازين المواطنة. تاريخ مئة عام من عمر الدولة العراقية يضع بين أيدينا ملفا ضخما من صفحات تعامل بغداد الفض مع الكورد والثورة الكوردستانية، والآن مع سلطات اقليم كوردستان. العديد من جولات التفاوض على مدى عقود متتالية واتفاقيات تبرم بين الجانبين الكوردي والحكومي العراقي، فيما تبقى المحصلة النهائية رهن الالتفاف من جانب الحكومة العراقية على بنود الاتفاقيات والتعامل مع الكورد وموطنه كوردستان من منطلق التابع الذي لابد من اخضاعه اختيارا او اجبارا.
مع ان الحقوق التي يتمتع بها الكورد العراقيون تسير وفق خط بياني تصاعدي، الا ان الحكومات العراقية تستغل اول فرصة تسنح لها للانقضاض على الكورد واخضاعهم بمنطق القوة والعنف المفرط وتبديد حقوقهم وتسويف بنود العقود المبرمة بين الجانبين. ونتيجة ذلك حرم البلد من الاستقرار والسلام الدائمين، ودفع باهضا ضريبة عدم الاستقرار تلك.
السلطة القضائية الاعلى في البلاد، المحكمة الاتحادية صاحبة القرارات النافذة والسارية على جميع تشكيلات السلطتين التشريعية والتنفيذية باعتبارها الملاذ للبت في القضايا العقدية وحلحلة الاشكاليات القانونية، وقد علّق العراقيون المزيد من الآمال على هذه المحكمة باعتبارها سلطة قضائية عليا تستطيع حسم القضايا والملفات الملتهبة والمستعصية، خصوصا وانه يفترض ان تكون هذه المحكمة مؤسسة حيادية تلتزم العدل والانصاف ضمن نطاق المصلحة الوطنية العراقية العليا ولجميع العراقيين، لكن الأيادي الخفية من وراء الكواليس بدأت تتسلل الى آلية اداء هذه المؤسسة القضائية العليا، وتم زحزحتها نحو ملعب السياسة الذي يستبدل فيه منطق العدالة بمنطق الفوز والخسارة. ولعل قرارها الاخير ضد قانون النفط والغاز الكوردستاني الصادر من برلمان كوردستان- العراق، يدعم القول الذي صرحنا به وبقوّة.
تتحدث العديد من الشخصيات الكوردستانية وأيضا الاعلام الكوردستاني عن المجلس الاتحادي وضرورة تشكيله بموجب الدستور معتبرين اياه سفينة النجاة للواقع العراقي المتشابك، باعتقادي لا هذا المجلس المنتظر ولا غيره من سلطات افتراضية، تستطيع ضبط المعادلة العراقية التي تعاني من اختلال كبير وهشاشة قابلة للاختراق من خارج ضوابط عملها وآلية ادائها المهني.
تشير تسريبات اعلامية بأن قوى خارجية، علاوة على قوى داخلية، مارست الضغط على المحكمة الاتحادية لاصدار قرارها حول قانون النفط والغاز في اقليم كوردستان. هذه التسريبات لا يمكن ان تكون اتهامات اعتباطية او رجما بالغيب، بل ان المعطيات الواقعية تدعمها بكل قوّة. ما يعني ان السلطة القضائية في العراق تعاني التبعية وتخضع للمشيئة الولائية والسعي المصلحي للعامل الخارجي والمشيئات الجهوية الداخلية في آن واحد، وبالتالي تخل بمبدأ سيادتها وممارستها سلطاتها من وجهة نظر المصلحة العراقية العليا. التسرع في اصدار القرارات من قبل المحكمة الاتحادية، خصوصا تلك المتعلقة باقليم كوردستان، يدفع بالأمور الى مزيد من التعقيد والتداخل، ولا يمكن ان يصب في مجرى المصلحة الوطنية العراقية.
الحقيقة التي يفترض ان يدركها كل مسؤول عراقي وكل شخصية عراقية بيدها بعض تلابيب السلطة وادواتها، هي ان العراق وطن مشترك للعرب والكورد، يتكون من جغرافية ذات اغلبية كوردية تتمتع بخصوصيات اصيلة الى جانب جغرافية ذات اغلبية عربية بخصوصيات اصيلة ايضا. وقد جرى دمج الوطنين الكوردي والعربي في دولة حديثة اسسها البريطانيون نهاية الربع الاول من القرن العشرين. الحكومات العراقية المتعاقبة طوال العهدين الملكي والجمهوري لم ترد ان تستوعب هذه الحقيقة، بل اعتبرت ومازالت تعتبر كوردستان (شمال العراق) حديقة خلفية للدولة العراقية، وهذا الفهم غير المتكامل للواقع الكوردي والكوردستاني في العراق، يعد العامل الاكثر فعالية في نسف كل الاتفاقيات المبرمة بين الكورد وبغداد وعصب السبب في عدم تحقق الاستقرار في البلد. والاشكالية الكبرى هو انزلاق السلطة القضائية الى هذا المطب.
باسنيوز