تدوير الأزمة العراقية حكومة توافقية أم أغلبية سياسية ؟
د. عبد الحسين شعبان
مفكّر وأكاديمي عربي
منذ انتهاء العملية الانتخابية في 10 تشرين الأول / أكتوبر 2021 وفرز الأصوات وإعلان النتائج، دار جدل وانفتح نقاش وثار سجال بشأن الوجهة التي ستتمخّض عنها الاتفاقات والتقاطعات السياسية والتي على أساسها يتم تشكيل الحكومة، وبالتالي كيف يمكن رسم الخريطة السياسية الجديدة في ضوء النتائج؟
بدأ الحوار داخل ما أطلق علية ﺑ "المكونات" على الرغم من وعورته والحساسيات الخاصة بكل مجموعة، لكن السنيّة السياسية استطاعت أن تحرز تقدّماً بتوحيد مسارها واختيار شكل جديد لوحدتها بعد صراعات واتهامات دارت بين أطرافها، بدأت بما هو سياسي ووطني وانتهت بما هو شخصي وعائلي.
النجاح الذي أحرزته في المقاعد الانتخابية دفع كتلتي العزم و التقدم للاتفاق على أن يكون محمد الحلبوسي رئيساً للبرلمان مرشّحاً عن الكتلة، ويكون خميس الخنجر رئيساً للكتلة، وهو ما حصل، حيث فاز الحلبوسي بنسبة أصوات عالية في البرلمان بتأييد من كتلة الصدر(سائرون) والحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك)، في حين قاطع الجلسة جزء من الشيعية السياسية والتي سمّيت لاحقاً "جماعة الإطار"، وكذلك جزء من الإثنية السياسية الكردية المتمثّلة بالاتحاد الوطني الكردستاني (أوك)، وهكذا تمكنت السنية السياسية الجديدة من تجاوز السنية السياسية التقليدية.
وإذا كان الخلاف قد ثار بشأن ما حصل في الجلسة الأولى بعد اختتام البرلمان، فإن المحكمة الاتحادية حلّت هذا الإشكال وحسمت الأمر بقرارها يوم الثلاثاء 25 كانون الثاني / يناير 2022 ، وهو قرار قانوني وفني ينبغي أن يخضع له الجميع، بردّ الدعوى واعتبار ما حصل في جلسة الإفتتاح قانونياً.
وبصدد التحالفات الشيعية – الشيعية، فقد برزت إلى السطح محاولات اتخذت عنوان إحياء ما سمّي بالبيت الشيعي الذي تصدّع على نحو كبير، وكان أحمد الجلبي هو من دعا لتأسيسه لتكريس نظام المحاصصة والغنائم والزبائنية، واستمر الحال على ما هو عليه بين شدّ وحل حتى برز في الساحة دور السيد مقتدى الصدر الذي دعا إلى أغلبية سياسية بعد فشل حكومات التوافق جميعها منذ العام 2003 ولحدّ الآن، سواءً التي تشكّلت بعد الاحتلال الأمريكي مباشرةً أو بعد الانتخابات التي جرت في الأعوام2005 و2010 و2014 و2018 ، خصوصاً وهو الحائز على أكبر نسبة من المقاعد في البرلمان (73 مقعداً)، حيث تشبّث بدور الكتلة الأكبر في تشكيل الحكومة ودعا من لا يؤمن بحكومة الأغلبية الوطنية (كما يطلق عليها) إلى الانتقال إلى المعارضة.
ومهّد الصدر قبل الانتخابات إلى اتفاقات أولية مع مسعود البارزاني (رئيس حدك) ومجموعة الحلبوسي (تقدم)، إضافة إلى انحياز كتل صغيرة وبعض المستقلين إلى جانبه، وهو ما يدعوه للتمسّك بفكرة الأغلبية السياسية.
ودخل الصدر في حوارات حركية مكوكية مع الإطار الذي ضمّ كتلة نوري المالكي (دولة القانون) و هادي العامري (كتلة الفتح) و حيدر العبادي (كتلة النصر) وكتلة السيد عمار الحكيم، إضافة إلى جماعات من الحشد الشعبي أو قريبة منه عملت في كتلة الإطار الشيعية، لكن الخلاف ما يزال مستمراً حول فكرتين أساسيتين: حكومة التوافق أم حكومة الأغلبية؟ ومن هو رئيس الوزراء؟ لأن كتلة الإطار ترفض على نحو قاطع استمرار مصطفى الكاظمي رئيساً للوزراء، في حين أن الصدر يمكن أن يقبل به أو يستبدله في حال الاتفاق بشأن حكومة الأغلبية، والأمر عائد إلى توافقاته مع حدك ومع العزم و التقدم .
كتلة التحالف الكردستاني التي يعتبر ركنها الأساسي (حدك) حصلت على أعلى الأصوات كردستانياً، وهي الكتلة الأكبر في الإقليم، هي الأخرى تصدّعت، ﻓ "أوك" رشّح برهم صالح لكي يستمرّ بمنصبه رئيساً للجمهورية، في حين أن (حدك) اعتبر أن الترشيح من حق البارزاني حتى وإن كان لأوك، علماً بأن البارزاني لا يرغب باستمرار برهم صالح في منصبه، بل إنه من البداية كان ضدّ ترشيحه، ورشح منافساً له في الدورة السابقة فؤاد حسين الذي لم يحصل على العدد المطلوب كي يصبح رئيساً للجمهورية ففاز حينها برهم صالح .
وأخيراً بادر هوشيار الزيباري وزير الخارجية الأسبق إلى ترشيح نفسه، لكن مفاجأة جديدة بترشيح لطيف رشيد نفسه وهو وزير سابق لرئاسة الجمهورية، ويمكن أن يكون مرشح تسوية وقد ينسحب الزيباري لتكون المواجهة بين صالح ورشيد، وإذا ما توقّعنا استمرار التحالف الثلاثي (كتلة الصدر وحدك ويضاف إليهما عزم وتقدّم) فإن رشيد سيحصل على الأصوات المطلوبة في البرلمان، وبذلك تكون التحالفات القديمة الكردية – الكردية اتخذت مساراً آخر لاشكّ أنه يضعف التحالف الكردستاني، كذلك التحالفات الشيعية – الشيعية، حيث ستكرّس الانقسام فيما إذا استمرّ الصدر في موقفه، وهذا يقود إلى المزيد من التباعد في حين قامت السنية السياسية على التوافق بين عزم وتقدم، وبرزت ككتلة مؤثّرة ويُحسب لها حساب لدى الطرفين الكردي والشيعي.
اختيار رئيس الوزراء
المعضلة الأساسية هي اختيار رئيس الوزراء، فعدا الكاظمي ليس هناك مرشّحاً مطروحاً على الساحة من جانب السيد الصدر، حتى وإن تردّدت أسماء بعض الشخصيات، لكن الحسم يتمّ بعد قطع الأمل بشأن توافق شيعي – شيعي، حينها سيتم الاختيار مع ملاحظة لرأي حدك والسنية السياسية (عزم و التقدم)، ولكن الثقل الأكبر سيكون في الاختيار للسيد الصدر.
وإذا كان هذا أحد وجوه الصراع، فهناك وجه آخر إقليمي ودولي، إذْ ينبغي على المرشح أن يكون مقبولاً إيرانياً وأمريكياً، ففي جميع الوزارات التي تم تشكيلها كان هذا الشرط حاضراً، بل معلناً أحياناً ولا يخفيه الفرقاء، لأن العراق منذ العام 2003 واقع بين محورين متصارعين ومتوافقين، هما إيران وأمريكا، تختلف مصالحهما وتلتقي في نقاط محدّدة، لعلّ أهمها هو أن يبقى العراق ساحة لهما يلعبان بها حسب ما يروق لهما، فتارة يتّفقان وأخرى يختلفان، سواء حصل الأمر في فيينا أو على الملف النووي أو دخل الحوثيون فيها أو كان لسوريا ولبنان ثقلاً في المعادلة، مثلما من جهة أخرى هناك وزنٌ مؤثر لدول الخليج، ولا سيّما المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات وتركيا بحضورها أو غيابها، لكن ما هو معلوم هو أن الحسم يتم بينهما على اختيار رئيس الوزراء بتراضٍ من جانب القوى المشاركة في العملية السياسية، ويقال عنه عبر مرجعية السيد السيستاني، التي لها هي الأخرى رأي نافذ فيما حصل، خصوصاً عند عدم توافق الفرقاء من الشيعية السياسية.
فهل هذا هو الهمّ الحقيقي للناس؟ فالعراقيون منذ 19 عاماً يعانون من انعدام الأمن أو من اختراقاته العديدة آخرها مجزرة ديالى، ناهيك عن معضلة الكهرباء المعتّقة، على الرغم من أن ما يزيد عن 80 مليار دولار قد صُرفت عليها دون جدوى، ويستمّر نقص الخدمات الصحية التي زادتها انكشافاً لحد الفضيحة المدوّية ما حصل خلال اجتياح وباء كورونا، ونقص الخدمات التعليمية، حيث انحدر التعليم إلى درجة مريعة بانحطاط المستوى التعليمي، فضلاً عن نقص الخدمات البلدية وكلّ ما يتعلّق بالبنية التحتية، واستمرار تفشّي البطالة وانتشار الأمية، وتفاقم ظاهرة الفساد المالي والإداري وعمليات التزوير التي طالت جميع مفاصل الدولة، ناهيك عن المشاريع الوهمية والموظّفين الفضائيين "الوهميين" وانتشار السلاح والاحتكام إليه في حلّ الخلافات السياسية، بل وقصف السفارات في المنطقة الخضراء.
كلّ ذلك يجري في ظلّ نظام يشجّع دستوره القائم على ما يسمى بالمكونات على التقاسم الوظيفي الطائفي – الإثني الذي يغطّي على مظاهر الخلل والأخطاء والعيوب والنواقص والثغرات والمثالب، لأنها جزء من الإنحيازات المسبقة بالانتماء الطائفي أو الاثني أو العشائري أو الحزبي أو غير ذلك، فالكل يدافع عن مكوّنه حتى وإن كان فاشلاً أو فاسداً، بالحق أو بالباطل.
وقد ورد مبدأ المكونات في الدستور في المقدمة (مرتان) وفي المواد 9 و12 و49 و125 و142، وهكذا اعتُبر المواطن جزءًا من مكوّن بدلاً من مبدأ المواطنة الحرّة المتساوية حين يُفترض في إشغال المواقع العليا في الدولة "الوطنية والكفاءة"، إلّا أن العكس هو السائد حين يُعتبر الانتساب إلى المكوّن الذي يقوم على "التبعية والولاء" هو الأساس، فثمّة فروق كبيرة بين نظام يقوم على المواطنة والكفاءة وبين نظام يقوم على الزبائنية والمغانم.
تلك هي معضلة العراق الحقيقية وليس في حكومة توافقية أم تشاركية أم تضامنية أم أغلبية سياسية أم أغلبية وطنية، فلا يهم المواطن من يحكم، لكنه يريده نزيهاً وكفوءًا، لا يعنيه من أي دين أو طائفة يتحدّر ولأي عشيرة أو حزب ينتمي، متديّن أو غير متديّن، لكن عليه أن يراعي مصالح الناس ويضع خدمة بلده في الصدارة، خارج دائرة الإستقطابات الإقليمية أو الدولية.
المواطن العراقي يريد حكومة لا تميّز بين المواطنين على أساس انتماءاتهم، بل أنها موجودة لحماية الجميع باحتكارها حق امتلاك السلاح واستخدامه، ولن يتم ذلك دون استعادة هيبة الدولة ونزع السلاح من القوى والعشائر خارجها وتحت أية مسميات، وفرض القانون على الجميع. ولعلّ تلك المعادلة ستبقى قائمة الآن وفي المستقبل إلّا أن استمرارها دون أن ترسو على حلّ سيفجّر الشارع مجدّداً كما حصل في العام 2019 في حركة تشرين الإحتجاجية، والتي راح ضحيّتها أكثر من 600 شهيداً ونحو 20 ألف جريح دون محاسبة أو مساءلة أو أية محاكمات للقتلة أو من أوعز لهم القيام بذلك.
وهكذا كان المسؤولون يتصرفون على هواهم طالما يشعرون أنه لا يوجد رادع لهم وأنهم مصونون غير مسؤولين ويستطيعون الإفلات من العقاب، في حين أن مجرّد إقامة رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون حفلةً في قصره في فترة الحجر الصحي وتجاوزاً على قواعد السلامة الصحية عرّضته لسيل من الانتقادات قد تؤدي إلى استقالته، في حين أن من هاجم النجف والفلوجة والبصرة ومدينة الصدر (الثورة) والناصرية وكربلاء والعمارة وحركة تشرين وغيرها وقتل أعداداً من المتظاهرين السلميين خارج دائرة المساءلة.