دولة النقيق السياسي
كفاح محمود
من أبرز تداعيات اتفاقية سايكس بيكو وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية هو قيام مجموعة من دول وانظمة خارج خيارات شعوبها التي رفضت تلك الاتفاقية ودخلت في صراع بيني نتيجة الادغام والدمج كما توقع حينها أحد الدبلوماسيين الأميركيين في حفل توقيع تلك الاتفاقية حيث قال:
"انكم توقعون على صراعات وعداوات تنتج بحور من الدماء في هذه الدول"، وفعلا تحققت نبوءات ذلك الدبلوماسي الحصيف في السنوات الأولى لانبثاق تلك الممالك والدول وبدأت الصراعات والتنافسات التي عبر عنها ملك العراق الأول حينما وصف المجتمعات العراقية قائلا:
"لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء، ميّالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتفاض على أي حكومة كانت".
هذا الواقع المرير لم يكن حكرا على سكان بلاد النهرين في العراق وكوردستان، بل كان يشمل معظم بلاد الشام في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن بسبب التعددية القومية والدينية وعدم تبلور مفهوم جامع للمواطنة الحقة، حيث التفرد والاقصاء للمكونات الأصغر باستخدام القوة والعنف، حتى طلت على الجميع حقبة الانقلابات وجمهورياتها الدموية التي انتجت دول النقيق السياسي وخطاباتها النارية وشعاراتها الطنانة ومزايداتها بقوت وحقوق الناس والمواطنة سواء بشعارات قومية تهييجية او باستخدام وتوظيف الدين والمذهب والرب في تجارة سياسية مقيتة، وقد تجلى ذلك مع مطلع ستينيات القرن الماضي حيث نجح ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي في تقديم ذلك الفلكلور القومي بصيغة مطورة لجمهور متهالك ومحبط وحالم بإمبراطوريات مترامية من الخليج إلى المحيط ينشد معاً نشيدا واحدا و يرفع رايات الثورة العربية من أقصى المشرق العربي إلى أقصى مغربه، دون أن يفقه ما وراء ذلك النقيق من شعارات براقة تدغدغ العواطف والغرائز وتسحق أمامها قيم الحضارة والتقدم الإنساني، فجاءت تجربتهم في العراق عام 1963 على أنقاض الجمهورية الأولى التي حاولت إنشاء دولة عراقية بعيدة عن ذلك الفلكلور السياسي.
هذه التجربة التي أبدعت في إنشاء مدارس العنف وتكميم الأفواه والتفنن في عمليات الاغتيال والتصفيات وإنشاء العصابات الإيديولوجية التي ستحرر الأمة وتوحدها، وتقضي على العملاء والمتآمرين على مستقبلها من (الشيوعيين والأكراد والشعوبيين الشيعة) الذين يعيقون تطور وتقدم الثورة العربية وحزبها (الطليعي)، وهكذا وخلال أقل من عام واحد نجح ميشيل عفلق في ترجمة وتطوير فكرة الغزو التي كانت منتشرة بين القبائل في الفلكلور السياسي والاجتماعي، وتحويلها إلى مجموعة من القوانين والنظريات الإيديولوجية والشعارات، حيث لم تمضِ فترة طويلة حتى أعلنت دولة البعث في العراق والتي تميزت بغزواتها الكبيرة شمالا في كوردستان وشرقا في ايران وجنوبا في الكويت، ناهيك عن اذرعها في لبنان وسوريا وارتيريا واليمن والسودان لتأسيس قاعدة انطلاق نحو بناء مجتمع إيديولوجي يذيب ويصهر كل الأفكار والمعتقدات والقوميات والأديان والألوان في بوتقة فلسفة حزب واحد وقومية لا غيرها الا تابعا.
وبذلك توج أصحاب النقيق السياسي فارسهم ملكاً لمشارق الأرض ومغاربها وشيخاً لكل الغزاة الباحثين عن أمجاد هولاكو، ليندفع هذه المرة بغزوته الاخيرة العارمة الكاسحة بجيشه الخامس محاولا ابتلاع الكويت أرضاً وشعبا، لكن هذه المرة كانت اللقمة اكبر كثيرا من حلوقهم فاختنقوا وانكفئوا في حدود دولتهم ليصبوا جام غضبهم على مواطنيهم بعد هزيمتهم النكراء وفشل دولة النقيق التي أنتجت خلال أربعين عاماً أكثر من مليون قبر وما يقارب النصف مليون معاق جسدياً ونفسياً ومئات الآلاف من السراق والمنحرفين والانتهازيين والمتملقين والمختلسين وملايين من البشر تحت سقف الفقر المالي والعلمي والثقافي وآلاف مؤلفة من المستكينين ومثلهم ممن أدمنوا النقيق والجريمة والدعارة السياسية والارتشاء والسادية.
إن ما أنتجته دولة النقيق في كل من العراق وسوريا وليبيا واليمن ومن ماثلهم في الهرج والمرج السياسي، لم يتعدى الا ما نراه اليوم من أفواج الأرامل واليتامى والمعاقين، وانشاء دولة اللا دولة ضمن كيان الدولة لينخر فيها البؤس والتخلف والفقر والتقهقر المرعب في كل مناحي الحياة، والأخطر من كل ذلك إنها قتلت وبسبق الإصرار والترصد شيئاً اسمه المواطنة واغتالت إحساساً اسمه الانتماء للوطن، لأنها وبجدارة فائقة أشاعت الرعب والإرهاب والخوف لدى الأهالي من خلال اذرع ميليشياوية طائفية او قبلية شتت وشرذمت الانتماء والولاء في زوايا ضيقة بعيدا كل البعد عن أي مفهوم للوطن والوطنية.
باسنيوز