دعوا كركوك لأهلها
طارق كاريزي
الاداء الاداري في الدولة العراقية تراجع بشكل ربما لا يصدقه من هو خارج البلد. اليكم مثال بسيط. قبل 61 عاما اصدرت الدولة العراقية في مجلد مرموق (دليل الجمهورية العراقية لسنة 1960). هذا الدليل يضع مختلف المعلومات الضرورية امام المواطن، وهو بمثابة بنك المعلومات الرسمي للدولة العراقية آنذاك.
أما الآن، فالدولة العراقية، رغم الطفرة التقنية الهائلة، عاجزة عن تقديم بيانات دقيقة حول مختلف شؤون وشجون الدولة ومواطنيها. ثمانية عشر عاما مرّت على سقوط النظام السابق، فيما النظام الجديد الذي جاء بعد عام 2003 على انقاض النظام السابق، لازال يسير على خطى سلفه. النظام السابق قد اختط لنفسه مسارا بوليسيا جعل كل واردة وشاردة امرا محرما ممنوعا لا يحق للمواطن الالمام به وبذلك تماهت الامور في العماء، فيما النظام الجديد رغم الحرية المشاعة الا انها عاجزة عن بلورة الامور بالشكل الذي ينقل البلد من السير على سكة المجهول الى السير على طريق مبرمج بالشكل الذي يضمن تحقيق الاهداف بنسب متقدمة.
معلومة بسيطة استلها من دليل الدولة العراقية صدر قبل 61 عاما واتخذها كمدخل لواقع مدينة كركوك التي تراجعت في مختلف النواحي. بحسب الدليل ، كان عدد سكان المدينة 124 الف نسمة. وصنوا كركوك كل من مدينتي اربيل والسليمانية كان عدد سكان كل منهما نصف عدد سكان مدينة كركوك. وهذا ليس غريبا، كون كركوك هي مركز كوردستان الجنوبية والعاصمة الطبيعية لهذا الجزء من الوطن الكوردستاني.
تقول الاجيال السابقة خلال سردها المتدفق من نبع ذاكرتها، بأن كركوك قبل نصف قرن من الآن كانت المدينة الاكثر اشراقا على مستوى جنوبي كوردستان من حيث العمران والمدنية والنظافة والثقافة والفنون. كانت تضم اكبر عدد من المكتبات بما يعادل اربعة اضعاف المكتبات التي كانت موجودة في باقي المدن الكوردستانية الكبيرة، مثل اربيل والسليمانية وغيرهما. وكانت الكتب والمجلات والصحف تصدر من مطابعها الاهلية والحكومية باستمرار. وشهدت المدينة نهاية ستينيات القرن الماضي اول بث تلفزيوني كوردي، وتأسس فيها ايضا عام 1974 اول قناة تلفزيون كوردي على مستوى جميع اجزاء كوردستان. وعراقيا كانت كركوك من المدن النموذجية ومثالا مشرقا للتطور والعصرنة والنمو.
احد الذين ادلوا بشهادتهم حول كركوك أيام زمان، هو المفكر الراحل الاستاذ فلك الدين كاكيي الذي واصل تعليمه الثانوي في المدينة قادما اليها من قرى تابعة لقضاء داقوق جنوب كركوك. جاء في مقال للاستاذ كاكيي حول كركوك في ستينيات القرن الماضي، بأن البلدية كانت تقوم صباح كل يوم بغسل شوارع المدينة، ورائحة العطر والزهور كانت تفوح من شوارعها وازقتها.
الصورة الآن تبدو معتمة تماما. الرائحة المنبعثة من شوارع واحياء وازقة كركوك الحالية تزكم الانوف، فهي رائحة تعفن النفايات المرمية في جميع الطرقات وفي شوارع وازقة الاحياء والاسواق أيضا. الواقع العمراني متأخر، المدينة تعاني من تدهور وتراجع في النواحي الثقافية والمدنية، مع فقدانها لمعظم، ان لم نقل كل مظاهر المدينة الحديثة والمدنية المعاصرة.
من الانصاف ان نقول، بان كركوك شهدت حالة من النمو والاعمار بعد عام 2003 حيث تولى مسؤولية ادارتها اناس من اهلها حتى عام 2017، تبعه تسليم مقاليد المدينة والمحافظة الى القوات العراقية وباتت كركوك اكثر خضوعا لبغداد من سيرها بمجاراة كوردستان. وطوال قرن من عمر الدولة العراقية اثبتت بغداد بانها تتعامل بمنطق البقرة الحلوب مع كركوك. وبحسب هذا المنطق يتم تغذية موازنة الدولة العراقية بأرصدة ايرادات البترول من دون ان تولي الدولة اهتمامها بجغرافية انتاجه.
اهل مكة ادرى بشعابها، حيثما تيسر لأبناء كركوك تسلم مقاليد ادارتها، فمن المؤكد بأن المدينة تسير نحو النموّ والتقدم، وبعكسه عندما تناط ادارتها لغير اهلها، فالقادمون والوافدون اثبتوا بان الاولوية بالنسبة لهم ارضاء السلطات في بغداد ومجاراة سياساتها التي تتلخص في مصادرة هوية المدينة والاستحواذ على خيراتها، علاوة على مراعاة المصالح الشخصية واغتنام الفرصة للحصول على اكبر قدر من الغنيمة من قبل المسؤولين المنسبين من قبل بغداد.
كركوك هي العاصمة الطبيعية لكوردستان العراق، كانت في العهد العثماني عاصمة ولاية شهرزور. الحكومات العراقية المتعاقبة مارست مختلف صنوف سياسات اللف والدوران من اجل عزل كركوك عن محيطها الكوردستاني واستقطاعها من جغرافية جنوبي كوردستان، في مسعى منها لحرمان الكورد من ايرادات بترولها، وقد تلقت هذه الحكومات العون والدعم في مسعاها هذا اقليميا ودوليا.
مستقبل كركوك المشرق وفرصة نموها وتطورها، مرهونان بتسليم مقاليدها الى اهلها والقبول بهويتها الكوردستانية. من دون ذلك لا أمل في تقدم كركوك، وقرن من الزمان يقدم كم من الادلة والقرائن عما نقول.
باسنيوز