طارق كاريزي

تعد الاسواق احد المعالم المهمة في كل مدينة. فالسوق يعبر بشكل ما عن هوية المدينة وطراز حياتها، واحيانا يمتد البعد الهوياتي للمدينة ليشمل تأريخ وماضي المدينة. قدر تعلق الامر باربيل، فالاسواق نابعة من ذات المدينة وكينونتها الحاضرة. ولعل سوق القيصرية يعبر بشكل مركز عن الهوية الحضارية وروح التكوين الحضري لعاصمة اقليم كوردستان.
يقع سوق القيصرية باعتباره الاقدم بين اسواق اربيل في قلب المدينة على بعد عدة امتار من قلعة اربيل محور المدينة ومرتكز بقاؤها ونموها. تشتهر كوردستان باسواقها القيصرية. والتسمية جاءت من التكوين المعماري للسوق، كونها اسواق مغلقة ومسقفة ومحلاتها ذات طراز شرقي بحت. والاسواق القيصرية موجودة في اغلب المدن الكوردستانية القديمة، لكن خصوصية قيصرية اربيل مردها كبر السوق وسعته، فهو يتكون من عدد كبير من الازقة ويشغل مساحة كبيرة ويضم عددا كبيرا من اصناف الباعة والحرفيين، وبذلك فانه يلبي مساحة واسعة من طلبات ورغبات الزبائن وزواره.
ومن جهة اخرى فان سوق القيصرية يمتاز بطقسه واتموسفيره الخاص، حيث انه سوق، كغيره من الاسواق القيصرية، مسقف بكامله، وهذا يضفي جوا من الالفة والاحساس بالود بالنسبة لكل من يرتاده، كونه ذو جوّ اليف لا يوحي بالوحشة والغربة، بل انه جوّ قريب او مشابه لاجواء البيت وملامس لعمق الاحياء السكنية. علاوة على كون السقف العالي للسوق يحمي الزبائن من حر الصيف وبرد الشتاء.
وهناك ثلاثة مساجد في سوق القيصرية موزعة على جهاته الجنوبية والشرقية والشمالية، وهناك عدد من المطاعم، خصوصا الشهيرة باعداد الكباب الكوردستاني في سوق القيصرية، ويستطيع السائح شراء اكبر قدر من المنتجات الكوردستانية في هذا السوق. فالعسل الكوردي والجبن الكوردي باصنافه وجوز كوردستان واللبن الكوردي والكثير من المنتجات الزراعية والحيوانية الكوردستانية يمكن شراؤها فقط في سوق القيصرية حيث خصصت احدى ازقته الشمالية للمنتجات الغذائية الكوردستانية (النباتية والحيوانية).
ومن المهم هنا التركيز على جماليات الطراز المعماري لسوق القيصرية. وقبل التطرق لذلك، من الجدير التذكير بان هذا السوق هو جزء من اربيل القديمة وطراز معمارها هو شرقي كوردستاني بحت، نابع من الرؤية الحياتية والحاجات اليومية لمواطني المدينة ومحيطها. وحسنا فعلت الجهات المعنية بتطوير اربيل والمسؤولين عن التخطيط العمراني فيها، حينما قرروا (وقررت ادارة المحافظة) على ابقاء الاحياء التراثية التي تشكل قلب اربيل، وايضا المحافظة على سوق قيصرية اربيل وتطويره. لانه بذلك يتم المحافظة على الهوية الحضارية للمدينة في ظل عولمة عمرانية تستوجبها الحياة الحضرية المعاصرة وطبيعة نظام الحياة في ظل التطور التنكولوجي المتواصل من دون انقطاع.
نفذت محافظة اربيل مشروع تطوير سوق القيصرية على مراحل. وتضمن مشروع تطوير السوق تجديد السوق وفق نسقه القديم والمحافظة على خارطته العمرانية وواقع السوق وتوزيع المحلات فيه مثلما هي. ولعل التطوير الاكبر الذي طال سوق القيصرية تركز بشكل خاص على تجديد سقف السوق وجدارنه بالآجر عوضا عن الصفائح المعدنية المسندة بواسطة هياكل مصنوعة من اعمدة حديدية. وكذلك تم اطلاء ارضية السوق بالبلاط.
وشمل كذلك مشروع تطوير سوق القيصرية بناء سور يحيط به من كافة جوانبه، وهذا السور عبارة عن سلسلة من الاقواس المتالية المبنية بالآجر (الطابوق)، تتخللها اقواس كبيرة عند المداخل المتعددة للسوق مبنية هي الآخر ايضا بالآجر. وهندسة سقف السوق الذي يمتد طولا لآلاف الامتار ويغطي مساحات تقدر بعشرات آلاف الامتار المربعة، اعتمد طراز العمارة الشرقية التي تعتمد على بناء القباب والاقواس والزاويا المتلاقية التي تسند بعضها البعض، والذي حل عوضا عنه في الوقت الحالي البناء الكونكريتي الذي يتكون من مزيج من مشبكات الحديد وخلطات الاسمنت، وذلك في المباني والعمارات التابعة للقطاعين العام والخاص.
التجوال في سوق قيصرية اربيل فيه الكثير من المتعة بالنسبة للزائر والسائح، وهذه المتعة فريدة لا يمكن تلمسها في باقي اسواق المدن الكوردستانية، بل وحتى في باقي اسواق اربيل الحديثة والشعبية منها. الازقة الضيقة وكثافة المحلات واغلبها صغيرة المساحة وهي مليئة بالبضائع والسلع والحاجيات او هي مشغولة من قبل حرفيين يلبون مدى واسع من طلبات الزبائن، هي جزء من متعة زائر سوق القيصرية. وامام زائر هذا السوق فرصة كبيرة للتمتع بجماليات معمار السوق الذي يقوده نحو اسواق ايام زمان حيث الهدوء والحميمية وجلال المعمار الذي يقطر انسا وجمالا.