• Wednesday, 15 January 2025
logo

التربية والتعليم في فكر بديع الزمان "سعيد النورسي"

التربية والتعليم في فكر بديع الزمان
التربية والتعليم في فكر بديع الزمان "سعيد النورسي"
(1873 – 1960)
إعداد: د. عبد المهيمن الديرشوي
ولادته ونشأته:
ولد العلامة سعيد النورسي سنة 1290هـ، الموافقة لسنة 1873مفي قرية (نورس)، التابعة لولاية (بتليس)، الواقعة في شرق الأناضول بكردستان الشمالية، من أسرة كردية متوسطة الحال، تشتغل بالزراعة وتربية الحيوان، وعلى قدر كبير من التدين.
ظهرت علىسعيد في وقت مبكر من حياتهعلامات الذكاء والنبوغ، وتميز عن أقرانه بحب الاطلاع وكثرة الاستفسار ودقة الملاحظة، وكان يحرص على حضور مجالس الكبار التي كان يدعو إليها والده في بيته، ويناقش فيها مع علماء القرية مسائل كثيرة.
وفي هذا الصبا المبكر، جلبت اهتمامه مسائل فلسفية وفكرية عميقة، كانت تدعوه دائماً إلى التأمل والتفكير.
طلبهللعلم:
كان ميل النورسي إلى طلب العلم قوياً منذ نشأته الأولى، وكانت حياته مليئة بالحرص على طلبه منذ الصغر، مع اتقانه ومحاولة الجمع بين فنون شتى من أنواع العلوم والمعارف الدينية والدنيوية.
تلقى سعيد النورسي العلم والمعرفة وضمن تخصصات عدة، على أيدي مجموعة من رجالاتها البارزين، ونهل من ينابيعها، من أمهات الكتب الزاخرة بها، وتكونت لديه خبرة واسعة في مجال التعليم والدعوة والاصلاح؛ اكتسبها من خلال تنقلاته بين مدارس متنوعة، وتحت إشراف أساتذة مختلفون في المنهج والطريقة والأسلوب، ولا شك أن ذلك أثرى من الجوانب العلمية والتربوية والفكرية في حياته كلها.
وأصبحت سيرة التلميذ العبقري حديث المجالس العلمية، فشوَّقت العلماء إلى مجادلته في أصعب المسائل العلمية للتأكد من صحة ما يروَّج حوله، حتى أطلق عليه "سعيد المشهور"، ومن سرعة تمكنه من العلوم الحديثة كالجغرافيا، والفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والفلسفة، والتاريخ، وغيرها، ومناقشته المتخصصين في مجالاتها، ولحدة ذكائه ونبوغه العلمي، ذاعت شهرته، حتى لقبأيضاً بـ "بديع الزمان".
جهوده في خدمة العلم
سخر النورسي حياته كلها خدمة في نشر العلم والمعرفة، وخاصة عندما رأى القصور العلمي والفكري في تلك الأوقات، وكلفه ذلك الكثير من الجهد والمضايقة والنفي والملاحقة والسجن والعذاب.
شدبديع الزمان الرحال إلى استانبول عام (1907) محاولاً إقناع المسؤولين لإنشاء جامعة في كردستان الشمالية تحت اسم "جامعة الزهراء"، تجمع في التدريس بين العلوم القرآنية والعلوم الحديثة، ومهمتها نشر العلوم الرياضية والفيزياء والكيمياء بجانب العلوم الدينية، في ضوء مقولته المشهورة:"ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الكونية الحديثة، وبامتزاجهما تتجلى الحقيقة، وبافتراقهما تتولد الحيل والشبهات في هذا، والتعصب الذميم في ذاك"، غير أنه لم يفلح في مسعاه.
ألفالنورسي العديد من الكتب والمؤلفات منها تفسيره القيم "إشارات الاعجاز في مضان الايجاز"و"المثنوي النوري"، و"الخطوات الست"و"رسائل النور" المشهورة،وهي أكثر من "130" رسالة، وتضم أربع مجموعات أساسية هي: "الكلمات، المكتوبات، اللمعات، الشعاعات.
الأسس التربوية والتعليمية عند النورسي
لتمكين التربية والتعليم عند النشء أكد النورسي على مجموعة من الأسس والقواعد المهمة،وهي:
• أهمية تربية النشء على الإيمان، وخاصة في البيوت، حيث قال: (اجعلوا بيوتكم مدرسة نورية مصغرة، وموضع تلقي العلم والعرفان، كي يتربى الأولاد على الإيمان).
• صلاح الزوجين عامل قوي في صلاح الأولاد، فقدكان النورسي يوجه طالبات النور إلى اختيار الزوج الصالح الذي تربى تربية صالحة.
• التركيز على الأم، لأنها أستاذ التربية والتعليم الأول، حيث قال: (إن أول أستاذ الإنسان وأكثر من يؤثر فيه تعليماً هو والدته).
• الإخلاص، حيث يقول بأنه (ألزم شيء، وأهم أساس في التربية).
• الاهتمام بتربية وتعليم المرأة، ويذكر هنا: (أن العلاج الناجع لإنقاذ سعادة النساء من الإفساد،؛ ليس إلا في تربيتهن تربية دينية).
• التدرج في التربية والتعليم حسب مراحل العمر؛ لأن لكل مرحلة ما يناسبها من الطرق التربوية، وقد أشار إليه بقوله: (فكما تتحول الألبسة في الفصول الأربعة، تتحول طرز (أنواع) التربية والتعليم في طبقات عمر الشخص....).
• حسن اختيار المنهج التربوي والتعليمي، حيث يؤكد على المربي (المعلم) بأن يختار من العلوم أسلمها وأصلحها، ويسلك من الطرق أيسرها وأنفعها؛ حتى يسهل على المربَّى (المتعلم) تقبلها ويشعر بفائدتها.
• يؤكد النورسي على عدم استخدام أسلوب الترهيب والتخويف في التربية والتعليم، حيث يكون تأثيرها جزئي وسطحي ومؤقت، يسد طريق المحاكمة العقلية.
• أكد على ضرورة الاهتمام بالكيف لا بالكم، حيث أن اختيار نوعية العلم أولى وأهم من الاهتمام بكثرته.
• أكد على كثرة الاستطلاع حين قال: (أما حب الاستطلاع فهو أستاذ العلم)؛ لأنه وسيلة قوية للتحصيل العلمي.
المؤسسات التربوية والتعليمية عند النورسي:
1. الأسرة:
إن أول مؤسسة تربوية تعليمية تتلقى الطفل هي الأسرة بجميع عناصرها البشرية، لذا فلا غرابة أن يهتم النورسي بها في رسائله لأهميتها في حياة الفرد، حسب ما يتلقاه تعليماً من أفرادها، أو عملياً من تصرفاتهم وسلوكياتهم، ورأس ما ييسر تحقيق سعادة الأسرةهو حسن اختيار الزوجة، وصلاح الزوجين.
2. الإعلام:
عاصرسعيد النورسي بدايات الإعلام المتمثلة في أجهزة الراديو والصحافة، وإن كان لم يستخدم هذه الوسيلة في تربيته لطلابه، إلا أنه اعتبر جهاز الراديو وسيلة مهمة من وسائل التربية والتعليم إذا أريد له ذلك، فيقول: (جعل الهواء المحيط بالكرة الأرضية ميدان محاضرة، وحول سطح الأرض إلى مدرسة وملتقى دروس المعرفة، يتضمن نعماً لا حد لها، ينبغي الشكر غير المحمود عليها).
3. السجون:
اهتم النورسي بالتربية داخل السجون، ونادى بضرورة تحويلها إلى مدارس إرشادية وتربوية، وقد خاض غمار تلك التربية بنفسه في جميع السجون التي دخلها.
4. المدرسة:
اهتم النورسي بالمدرسة، حيث سعى طوال حياته لإقامة مدرسة (جامعة) الزهراء التي تدمج فيها الدراسة الدينية والعلمية معاً، إلا أنه لم يوفق في ذلك.
وينبغي هنا الإشارة إلى (المدرسة النورية) عند النورسي، والتي ظهرت حين أخذ يوجه اهتمامه إلى تأسيس أماكن تربوية وتعليمية أطلق عليها مسمى “المدرسة النورية”، في مكان واحد، لتدارس مختلف المسائل، من واقع كتابات النورسي في رسائل النور، وعلى ذلك يمكن اعتبار هذه المدرسة النورية -في نفس الوقت- مؤسسة تعليمية.
وقد كان من أهم مقومات نجاح المدرسة النورية دعوته إلى أن يكون الخلاف أو الاختلاف إيجابي بناء، ومعناه أن يسعى كل واحد لترويج مسلكه وإظهار صحة وجهته وصواب نظرته، دون أن يحاول هدم مسالك الآخرين أو الطعن في وجهة نظرهم، وإبطال مسلكهم، بل يكون سعيه لإكمال النقص ورأب الصدع، والإصلاح ما استطاع إليه سبيلاً، أما الاختلاف السلبي فهو محاولة كل واحد تخريب مسلك الآخرين وهدمه، ومبعثه الحقد والضغينة، والعداوة.
شروطفعاليةالمدرسةالتييريدهاالنورسي
1. تسمية المدارس بأحسن الأسماء، والتي لها معنى جميل أو تذكير بمعاني طيّبة.
2. الجمع بين العلوم الكونية الحديثة والعلوم الدينية تدريساً، لما لها من تأثير عظيم في تمييز الصالح من الطالح، ولتخليص المحاكمة الذهنية (العقلية) من ظلمات الأوهام والخرافة.
3. انتقاء المدرسين وانتخابهم مِنْ مَنْ حظي بالجمع بين العلوم الكونية الحديثة والعلوم الدينية.
4. مراعاة التعليم لاستعدادات المتلقينومستوياتهم العُمْرية والعاطفية والعقلية والمعرفية.
5. تقسيم أعمال التعلّم (فتح التخصصات)؛ لأنّ الطريق الرئيس لإنتاج المهرة في شعبة من شُعَب التعلم، هو التركيز على التخصص.
6. العدل بين المتخرجين من مختلف مؤسسات التعليم.
7. إنشاء مؤسسة لتكوين المكوّنين (المعلمين)، لهذا ينصح النورسي باتخاذ دار المعلمين ركيزة للتكوين (تكوين المعلمين)، أي تدريبهم وتأهيلهم.
فوائد المدرسة التعليمية المقترحة عند النورسي:
الفائدة الأساسية للمدارس عند النورسي هي نقل المعرفة عن طريق المدرسة إلى مجمل مكونات المجتمع، وينتج عنها إظهار محاسن الحرية، وتفعيل الاستفادة منها في شعاب الحياة، ثم يفصل هذه الفوائد في المتانة والثبات في التمسّك بالحق، فيدفع التعصّب الناشئ عن الجهل والبعد عن المحاكمة العقلية.
وفاته:
عندماأحس النورسي بدنو أجله، طلب من طلابه التهيؤ للسفر به إلى (أورفة) وهناك فارق الحياة، وذلك في(23/3/1960م)، تغمده الله برحمته الواسعة، وأسكنه فسيح جناته.
وختاماً نقول: يظهر من خلالالفكر التربوي والتعليمي لبديع الزمان سعيد النورسي أن برنامجه فيه تأمل نقدي لأوضاع التربيةفي واقعه المعيش، فاتجه نحو الذات ليسقط منها كل ما استقر من تقاليدوأعراف، ليضع قائمة قيم جديدة، وتصورات عامة لاتجاهات تربوية وتعليمية لا علاقة لها بأنماطالتفكير السابقة، فصاغ اتجاهاً تربوياً جديراً بالتأمل والبحث للتجاوب معالعصر، ورافضاً في الوقت نفسه حالة التقليد والجمود.


المصادر
• إحسان قاسم الصالحي. بديع الزمان سعيد النورسي نظرة عامة عن حياته وآثاره. استانبول: دار سوزلر.(1987).
• أحمد نوري النعيمي. الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا حاضرها ومستقبلها – دراسة حول الصراع بين الدين والدولة في تركيا. عمان: دار البشير. (1993).
• أورخان محمدعلي. سعيد النورسي رجل القدر في حياة أمة. استانبول: النسل.(1995).
• سعيد النورسي.الشعاعات. ترجمة إحسان قاسمالصالحي. القاهرة: دار سوزلر. (1993).
• سعيد النورسي.الكلمات. ترجمة إحسان قاسمالصالحي. القاهرة: دار سوزلر. (1992).
• سعيد محمد مصلحالقرني. الفكر التربوي عند بديع الزمان النورسي. بحث مكمل لنيل درجة الماجستير في التربية الإسلامية والمقارنة. السعودية: جامعة أم القرى.(1998).
• عبد الله الطويرقي. الإعلام وثقافة المجتمع الجماهيري. الرياض: الفرزدق.(1994).
• عزالدين جوليد.الفكر التـربـوي ومقاصده في الحياة عند بديع الزمان سعيد النورسي. متوفر على شبكة الانترنت بتاريخ 30/8/2013 على الرابط الالكتروني الآتي: http://www.nuronline.com/bahs.php?t=semp&sid=115&tid=129
• كايد إبراهيمعبد الحق. أسس التربية.عمان: دار الفكر.(2009).
• محسنعبد الحميد. النورسي متكلم العصر الحديث. القاهرة: دار سوزلر.(1985).
• محمدقنديل. منهج التربية عند النورسي. مجلة النور للدراسات الحضارية والفكرية. يوليو. العدد (4). ص 107-127. استانبول: مؤسسة استانبول للثقافة والعلوم. (2011).
• مصطفى زكيالعاشور. بديع الزمان نظرة عامة عن حياته وآثاره.ألمانيا الغربية.(د.ت).
• الملا محمد زاهدالملا زكردي. لمحة سريعة من خلاصة الإمام بديع الزمان. بيروت: دار الآفاق الجديدة.(د.ت).
عمار جيدل. التعليم طريقا للتحضر، قراءة في رسائل النور. متوفر بتاريخ 4/9/2013 على شبكة الانترنت على الرابط الالكتروني الآتي: http://www.nurmajalla.com/article.php?c=2&cid=2&id=246#fn40
Top