المناطق المتنازع عليها.. ستراتيجية الإدارة المشتركة وحساسية التعامل معها
المناطق الكوردستانية خارج الاقليم كما نسميها نحن الكورد، او المناطق المتنازع عليها حسب التسمية الدستورية التي تبنتها الدستور العراقي، كانت ولاتزال تشكل جزءاً كبيراً من الخلاف القائم بين حكومة اقليم كوردستان والحكومة المركزية وهي لاتزال تعد مسالة معقدة متعددة الاشكاليات من سياسية ودستورية وقانونية واجتماعية وديموغرافية، وهي ان كانت مشكلة داخلية من حيث اصلها الا ان التدخلات الاقليمية والاجندات التي تمثلها تمثل بعداً آخر لهذه المسالة المعقدة.
هذه المسألة وعبر التاريخ مرت بأزمنة ووقائع مختلفة، فمرة كانت جزءاً من المفاوضات بين القيادات الكوردية والحكومات القائمة في بغداد وتارة اخرى كانت تشكل مساحة واسعة من اوراق التفاوض بين الطرفين، وهي أيضاً كانت قضية شبه متفق عليها من حيث الحل ابان فترة المعارضة العراقية، الى ان تشكلت صورتها الاخيرة بعد 2003 في صيغة (مناطق متنازع عليها) في الدستور العراقي وبالاخص في المادة (140) منه والتي تشكل ذاكرة سلبية لطرفي النزاع، حيث يشكو الطرف الكوردي دائما من عدم تطبيق بنود هذه المادة فيما يشكو الطرف الاخر من حساسيته تجاه المادة والتي يراها تمثل تهديداً لمصير هذه المناطق وللمكونات غير الكوردية فيها.
وهي بعد 2003 مرت بأزمنة مختلفة أيضاً فكرة كانت تدار أمنياً من قبل قوات مشتركة عراقية وأميركية وكوردستانية وهي كانت تدار مشتركة أيضاً بعد مغادرة القوات الاميركية، وشهدت توتراً كبيراً كادت ان تصل الى اصطدام مباشر بين الاقليم والمركز ابان تشكيل قيادة عمليات دجلة في فترة رئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي، ثم اصبحت تدار من قبل اقليم كوردستان فقط بعد سقوط اغلبية هذه المناطق بيد داعش حيث كانت، وانسحاب الجيش العراقي منها، وأخيراً عادت تدار من قبل الحكومة المركزية بعد احداث 16 أكتوبر. ولاتزال هي هكذا على الرغم من المطالبات المتكررة من قبل حكومة إقليم كوردستان لايجاد صيغ معقولة لادارتها مشتركة وتعمل الطرفين على هذا المنوال منذ فترة ليست بالقصيرة على امل التوصل الى صيغ ترضي كافة الأطراف وترجع بالفائدة لهذه المناطق وساكنيها.
ذلك كان سرداً سريعاً لواقع تلك المناطق سياسياً وأمنياً، ليكون مقدمة لموضوع مقالنا، الذي نريد ان نسلط الضوء على اهم الاشكالات التي تواجهها والتحديات والعقبات التي تقف في طريقها.
مناطق شاسعة كانت ولاتزال تستغل من قبل المجاميع المسلحة لممارسة نشاطات هجومية مباغتة في القرى النائية
أولاً: الحالة الامنية والوجود العسكري
تمثل المناطق المتنازع عليها مناطق واسعة وممتدة من الحدود السورية في ربيعة وصولا الى الحدود الايرانية في خانقين ومندلي، وتمثل الجزء الواقع ضمن الحدود الإدارية لمحافظة كركوك الجزء الاكبر والاكثر اهمية وحيوية، حيث الابار النفطية الكبيرة، والانتشار السكاني الكثيف، والرمزية السياسية التي تمثلها مدينة كركوك العريقة.
الوضع الامني بعد احداث 16 اكتوبر في 2017 اصبحت تحت سيطرة القوات العراقية والقوات الاخرى التي أصبحت تشكل جزءاً من المنظومة الامنية العراقية ومنها قوات الحشد الشعبي، ولكن لكونها مناطق ممتدة وشاسعة وقسم كبير منها يمثل تضاريس جغرافية من سهول وتلال وصحارى احيانا وغير مسكونة، لذا كانت ولاتزال تستغل من قبل المجاميع المسلحة وخاصة داعش للتحرك فيها بسهولة وممارسة نشاطات هجومية مباغتة في القرى النائية على وجه الخصوص.
الحالة تلك بحاجة الى تنسيق عال المستوى بين المركز والاقليم كي لا يستغل ذلك الفراغ الكبير من قبل داعش والجماعات الاخرى خارج القانون ومن ثم جعلها موطئ قدم لاعادة التشكيل والتاسيس وضرب الامن الداخلي وزعزعة الاستقرار الاجتماعي بعد ذلك والتي سوف نعرج عليها في النقطة التالية.
وجدير بالإشارة ان التفاهمات الاخيرة التي اجريت بين الحكومتين في الاونة الاخيرة في سنجار وديالى تعد مبادرات ايجابية جداً، ويجب العمل على توسعتها لتشمل جميع المناطق المتنازع عليها والمناطق السهلية الواسعة التي تعد امتدادا لها جنوباً وغرباً.
العلاقات الاجتماعية بين الكورد والعرب على مر تاريخ العراق السياسي لم تكن جزءاً من الصراع الدائر
ثانياً: الحالة الاجتماعية
تتمع هذه المناطق بالتنوع الاثني والقومي والطائفي، وهي من عوامل النهوض والقوة اذا ما تم استثمارها والاستفادة من ايجابياتها حالاً ومستقبلاً، لكنه في الوقت نفسه يشكل عاملاً مساعداً لاستغلالها سلبياً وباتجاهات خاطئة.
تضرر المكونان الكوردي والشيعي كبيراً من ممارسات الحكومات السابقة قبل 2003، ثم تضرر المكون السني خاصة بعد مجيء داعش حيث انهارت البنى التحتية للمناطق السنية عامة وفي هذه المساحة على وجه الخصوص، وبعد احداث 2017 تضررت القرى الكوردية المحاذية للقرى العربية ولاسيما القرى الكاكائية في داقوق والتي اصبحت هدفاً مباشراً للمجاميع المسلحة من جهة وعدم الاكتراث الحكومي بواجبات الدفاع عنهم وبسط الامن في مناطقهم من جهة اخرى، فضلا عن استفزازات تمارسها بعض العشائر العربية تجاه الكورد فيما يتعلق بالاراضي الزراعية والتي ان لم تقم الجهات المسؤولة بمنع وصدها ربما تكون لها مالات وخيمة، سيما ان العلاقات الاجتماعية بين الكورد والعرب على مر تاريخ العراق السياسي لم تكن جزءاً من الصراع الدائر، وهذا ما تفتخر به جميع الاطراف التي لها اجندات ورؤى مختلفة حول ماضي ومحاضر ومستقبل هذه المناطق من حيث الهوية والادارة. لذلك يجب عدم المساس بهذا الجانب المشرق في تاريخ التعايش بين القوميات وعدم فسح المجال للمغرضين لدق الاسفين، وزرع الفتنة بين أطياف ومكونات كانت ولاتزال تتطلع للعيش المشترك في ظل الاحتفاظ بالخصوصية من جهة وقبول الاخر المختلف من جهة أخرى.
بعد احداث أكتوبر 2017 وتعطيل مجالس المحافظات فقد الكورد في المناطق المتنازع عليها الكثير من المناصب الادارية والامنية والعسكرية والتي كانت جزءاً من الاستحقاق الانتخابي
ثالثاً: الحالة الادارية
ربما تشكل الحالة الادارية احدى اهم نقاط الخلاف بين الاقليم والمركز في المناطق المتنازع عليها، سيما بعد تجميد عمل مجالس المحافظات من قبل مجلس النواب العراقي والذي يعد من الناحية القانونية مخالفة دستورية واضحة، وهي مسألة سياسية بحتة كانت جزءاً من تداعيات المظاهرات الجماهيرية التي حاولت الحكومة التخفيف من حدتها واحتوائها ومنها مسالة تعطيل عمل مجالس المحافظات بدعوى انها تمثل حكومات لا تقتضيها الواقع وتشكل عبئاً مالياً على الحكومة دون جدوى، لكن لذلك افرازات إدارية وسياسة أخرى سيما في هذه المناطق والتي كانت مجالس المحافظات تمثل الاطار الوحيد الذي يجمع ممثلي المكونات.
ففي كركوك ونينوى وصلاح الدين وبعد احداث أكتوبر 2017 وتعطيل مجالس المحافظات فقد الكورد في هذه المناطق الكثير من المناصب الادارية والامنية والعسكرية والتي كانت جزءاً من الاستحقاق الانتخابي، حيث كانت لمجلس المحافظة صلاحيات في تعيين الدرجات الخاصة وبقية المناصب الإدارية ورؤساء الدوائر والهيئات.
ومن حيث الواقع فان ادارة هذه المناطق لا يمكن عبر اجراءات فرض الامر الواقع، وهي اخطاء ارتكبها الجميع دون استثناء، ما أدى الى الشعور بالغبن لدى الأطراف الأخرى. لذلك يجب التحول عنها الى سياسة اخرى وستراتيجية اكثر جدوى وواقعية ألا وهي سياسة التوازن والتمثيل العادل في تلك المناصب لكي تمثل جميع المكونات دون تهميش لاحد مهما كان السبب.
السياسات السابقة واللاحقة لم تستطيع ارساء مقومات التعايش الاخوي والتمتع بايجابيات التنوع المكوناتي الذي تتمتع بها المناطق المتنازع عليها
رابعاً: الحالة الانتخابية
تعد مسألة الانتخابات من المسائل السياسية عالية الحساسية، حيث تكون للنتيجة الانتخابية انعكاسات كبيرة وعلى مستويات عديدة، وفضلا عن كونها عملية تمثيل نيابي فهي تمثل عملية اخرى لبيان الحجم المكوناتي، ان صح التعبير، ذلك ان عدم اجراء تعداد واحصاء سكني عام من قبل الحكومة المركزية على مر الاعوام السابقة، كانت لها افرازات كثيرة ومنها مسالة الانتخابات، سيما ان الانتخابات القادمة ستجرى وفق قانون ونظام انتخابي جديدين عبر تقسيم المحافظة الى دوائر انتخابية عديدة.
وبالرجوع الى الانتخابات السابقة لرأينا ان جميع المكونات حاولت التعبير عن الحالة الخصوصية لها بتكوين قوائم تمثل الجانب القومي او الاثني لتعبر عن الهوية القومية والحضور السياسي والبرلماني وما يترتب على ذلك من استحقاقات سياسية وادارية. بل ان الحملات الانتخابية في هذه المناطق تركز وبكثافة على الاستحقاق القومي او الاثني لتشجيع الناخبين على التصويت لقوائمهم المختلفة.
وبما ان القانون الجديد قد قسم كل محافظة الى عدة دوائر انتخابية فان اكمال هذا المشروع يحتاج الى تحديد حدود كل دائرة انتخابية والتي لن تكون سهلة في المناطق المتنازع عليها، حيث ان الاقضية والنواحي اصبحت اما عربية او كوردية او تركمانية احيانا وقلما تجد قضاء يكون التواجد الاثني والقومي فيها متوازناً.
وللأسف فان السياسات السابقة لعام 2003 واللاحقة له لم تستطيع ارساء مقومات التعايش الاخوي والتمتع بايجابيات التنوع المكوناتي الذي يتمتع بها تلك المناطق. وذلك ما يستدعي تقسيم الدوائر الانتخابية بدقة متناهية بحيث لا يخرج منها متضرر، لتبقى مسألة النتيجة الانتخابية مرهونة بنسبة المشاركة والوعي السياسي لدى الناخبين وليس بمعادلات فنية يتضرر منها مكون على حساب اخر.
خامساً: الحسابات الإقليمية
لا يخفى على احد ان الحسابات الإقليمية والدولية كان لها حضوراً قوياً في مسألة عدم حسم مصير المناطق المتنازع عليها، وعلى الرغم من ان الظروف السياسية بعد 2003 كانت مواتية لحسم هذه المسالة والسند القانوني كان موجوداً أيضاً ووسائل الحل والحسم كانت واضحة دستورياً، الا ان الاجندات الإقليمية كانت لها تاثير واضح لتبقى مصير تلك المناطق معلقة الى الان وستكون بمثابة قنبلة موقوتة يمكن ان تنفجر في أي وقت، والحق يقال ان المتضرر الرئيس هم المواطنون الاصلاء في هذه المناطق والتي طالما دفعوا ثمن عدم الاستقرار الأمني والسياسي والإداري فيها.
وذلك الأمر يجعل من مسؤولية الحكومتين المركزية واقليم كوردستان أكثر حساسية ما يفرض عليهما الاستعجال بمسألة إيجاد صيغ التفاهم المشترك حول إدارة المناطق المتنازع عليها امنياً وسياسياً وادارياً، والالتفات الى معاناة أهلها والبدء بمشاريع تخدم البنية التحتية لها.
روداو