العراق: عندما يراد احتكار المجال العام
في ليلة العاشر من محرم، يوم عاشوراء، بثت قناة فضائية مختصة بالطرب، برنامجها المعتاد، ولم ينتبه القائمون عليها إلى خصوصية هذا اليوم في الثقافة الشيعية في العراق، واستتبع ذلك استهجان وغضب مجتمعي واسع وهو أمر مفهوم ومسوغ، لكن سرعان ما تحول هذا الحدث إلى (تهمة رسمية) استدعت تدخل القضاء، ثم تعرض مقر القناة نفسها في بغداد إلى الحرق تحت أنظار القوات الأمنية والعسكرية التي لم تحرك ساكنا لمنع ذلك.
لم يكن السنة العرب في العراق، تاريخيا وثقافيا واجتماعيا، معنيين يوما بالطقوس المرتبطة بيوم عاشوراء، والمتعلقة بإحياء ذكرى استشهاد الحسين بن علي سنة 61 هجرية، الذي يعد تقليدا ثقافيا واجتماعيا شيعيا أساسيا، مع ان الدولة العراقية (ذات الهوية السنية) قبل العام 2003، ظلت حريصة على عد هذا اليوم يوم عطلة رسمية. وقد شكل منع السلطات العراقية في منتصف السبعينيات، وبشكل تعسفي، للطقوس المرتبطة بهذا اليوم، في سياق قرار شمل طقوسا أخرى، سببا رئيسيا في تعميق الحساسية الطائفية في العراق، خاصة بعد المواجهات ذات الطابع الطائفي التي حدثت في العام 1977، فيما يعرف بأحداث خان النص، نتيجة الإصرار على ممارسة هذا التقليد رغم المنع. وقد انعكست هذه الحساسية على كتابة الدستور العراقي عام 2005 حين أصر الفاعل السياسي الشيعي حينها على تضمين الدستور مادة تنص على حرية ممارسة هذا التقليد. وقد شهدت سنوات ما بعد 2003 نوعا من انخراط الدولة نفسها، عبر مؤسساتها المختلفة، وعبر ممثليها من الأفراد، في ممارسة هذه الطقوس بشكل علني، سواء عبر رفع الأعلام والأيقونات التي تحيل على هذا التقليد على مؤسسات الدولة وممتلكاتها العامة، أو عبر ممارسة الطقوس الخاصة بهذه المناسبة بشكل جماعي داخل المؤسسة العسكرية والأمنية ( اللطم والاستماع إلى ما يسمى بالمقتل الذي يصف واقعة الطف)، أو إذاعة نقاط التفتيش العسكرية، وعربات الجيش والشرطة هذا المقتل، ولم يصدر أي موقف «رسمي» يوقف هذه الممارسات التي تنقض فكرة الدولة نفسها (أي ان تعكس مؤسساتها وممثليها هوية المهيمنين عليها في مجتمع متعدد)!
والتطور اللافت هذه المرة هو تورط القضاء في هذه المواجهة «الطائفية» المفتعلة! فقد أصدرت محكمتان مختلفتان في بغداد والنجف قرارين منفصلين بإلقاء القبض على مالك القناة، وفق المادة 372/ 5 من قانون العقوبات العراقي التي تنص على أن: «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات او بغرامة لا تقل عن ثلاثمائة دينار/ من أهان علنا رمزا أو شخصا هو موضع تقديس أو تمجيد أو احترام لدى طائفة دينية»! وكان من الواضح أن الدوافع السياسية، وليس إنفاذ القانون، هي التي تقف وراء هذين القرارين! لأنه ليس من المنطقي عد بث أغاني في قناة تلفزيونية مختصة بالطرب، إهانة علنية لرمز أو شخص بأي حال من الأحوال!
والمفارقة هنا أن القناة تبث من خارج العراق، وهو ما يجعلها خارج الولاية القضائية للقضاء العراقي من الأصل! فقانون العقوبات يقرر في مادته التاسعة مفهوم الاختصاص الاقليمي وانه: «تسري أحكام هذا القانون على جميع الجرائم التي ترتكب في العراق وتعتبر الجريمة مرتكبة في العراق إذا وقع فيه فعل من الأفعال المكونة لها أو إذا تحققت فيه نتيجتها أو كان يراد لها أن تتحقق»!!! وبالتأكيد ليس ثمة عاقل يعتقد أن بث أغاني يمثل «جريمة» وقعت خارج العراق وتحققت نتيجتها، أو أريد لها أن تحقق في العراق! ويشير القانون إلى ما يسميه «الاختصاص الشخصي» في المادة 10، والتي تنص على أن: «كل عراقي ارتكب وهو في الخارج فعلا يجعله فاعلاً أو شريكاً في جريمة تعد جناية أو جنحة بمقتضى هذا القانون يعاقب طبقاً لأحكامه اذا وجد في الجمهورية وكان ما ارتكبه معاقباً عليه بمقتضى قانون البلد الذي وقع فيه». وبالتأكيد لا يعد بث الأغاني جريمة في القانون الاردني حيث توجد القناة!
إن تورط القضاء العراقي بهذه الطريقة الفجة، يعني أن ثمة محاولة واعية، ومنهجية لفرض هوية أحادية على المجال العام، استكمالا لمحاولات فرض هذه الهوية على الدولة نفسها! ويعني كذلك تورط الدولة نفسها في سياسات ذات طبيعة طائفية، في سياق محاولة لتكريس فكرة احتكار الفضاء العام نفسه! وهو ما يعكس سلوك الدولة المنخرط في هكذا سياسات وصلت ذروتها في سياق الحرب الاهلية التي جرت عام 2006 ـ 2007، بعد تدمير مرقد الامامين العسكريين في سامراء، عندما انخرطت مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية في هذه الحرب دعما لطرف ضد طرف آخر!
ظهر مفهوم المجال العام في بداية الستينيات مع كتاب «التحول البنيوي للمجال العام» ليورغن هابرماس، وهو يعرفه بانه «المجال الذي ينشأ من أفراد يجتمعون معا ليتناولوا احتياجات المجتمع من الدولة، والمشاركة في نقاشات حول القواعد العامة بالعمل الاجتماعي والسياسي» وبالتالي فهو المجال الذي يشكل الرأي العام، ويخضع هذا المجال العام لشروط الهيمنة الثقافية، التي تحدث عنها غرامشي وبورديو؛ وذلك عندما تتدخل الدولة نفسها في تحديد طبيعة «الخطاب» الذي يعده فوكو مجالا لممارسة السلطة في هذا المجال العام. لينتج عن ذلك خطابا قسريا/ عنفا رمزيا يحدد ما يمكن تسميته بالخطاب/ السلوك الشرعي، في مقابل ما هو ليس كذلك، أو حتى بوصفه خطابا مضادا! هكذا يجب أن تكون جريمة «سبايكر» البشعة التي وقعت في العام 2014 ضد مجموعة من الجنود العزل (الذين ينتمون لهوية المهيمن) حاضرة بقوة في المجال العام، عبر التذكير «الرسمي» المستمر بها، وعبر ملاحقة مرتكبيها «المفترضين» قضائيا ومعاقبتهم، وعبر تكريس سرديتها في المجال العام، فيما تكون أية محاولة للتذكير بمجازر وجرائم أخرى، ضحاياها أكثر عددا ولا تقل بشاعة عن هذه الجريمة، أمرا مستهجنا، ومرفوضا، وتتواطأ السلطة/ الدولة مع مرتكبيها على إنكارها وعدم الاعتراف بها من جهة، وعلى ضمان إفلاتهم من العقاب من جهة ثانية، لمجرد أن هوية ضحاياها تختلف عن هوية المهيمن على الدولة وعلى المجال العام! ويصبح الحديث عن جرائم الاختفاء القسري الموثقة لآلاف الضحايا، والقتل خارج إطار القانون، مثلا، خطابا «مضادا» يجب إسكاته بكل الوسائل الشرعية وغير الشرعية، عبر الدولة نفسها، وعبر الفضاء العام الذي يراد احتكاره.
باسنيوز