• Monday, 23 December 2024
logo

أيقونة الحلم الكوردي.. في ذكرى البارزاني الخالد

 	 أيقونة الحلم الكوردي.. في ذكرى البارزاني الخالد
د. فريد سعدون

ينوسُ التاريخُ الكوردي كشعاعٍ يندلقُ من رحمِ دفاتر الجبلِ المكين، معلّقٍ بين متين وهندرين، قنديل وشيرين، يتبدّى بين يديّ السلطان صلاح الدين إلى الشيخ الحفيد وأيقونة بارزان، تلك الرموزُ التي ما فتِئتْ تخطّ أسطُرَ الحياةِ بحبرِ البطولةِ والفداء، وتصونُ الوجودَ في زيّه الكورديّ بأثيرِ الدّم الجليلِ المكنون في مشيمةِ القرابين، وتعلنُ انبلاجَ مراسِمَ الفرحِ من رحيقِ الفجيعةِ، ذاكَ ترتيبُ الأحرفِ في سِفْر القداسة المدبّجةِ بأحلام الملايين، وتنضيدُ قوافي الحريةِ على إيقاع همْس كلِّ حجرٍ، وضحكةِ كلِّ طفلٍ، وحنينِ كلِّ بلبلٍ، في أهازيجِ كوردستان، ههنا تسيلُ أسطورةُ الخلقِ الأبديّ مرمراً وجُمان، مزركشةً بعقْدِ فرسان الجبل الأشمِّ من مهاباد إلى آمد إلى كوباني، ديرسم، قلعة دزه، ومهادُها في بارزان.
بارزانُ محجّةُ الأحرارِ على تخومِ الفجرِ الوليد، ناصيةُ الغدِ المتراميةِ على أُفق التحدّي، ترسمُ بأناملِ الجبلِ أوجاعَنا وآمالَنا خريطةً من ضياء، ترقّشُ من شهوةِ الطينِ حُلماً كوردياً، وتنفخُ فيه من زفرات العشق، فيسمو عالياً بأجنحةِ ريحِ الشمال، ويهاجرُ مع قوس قزح ليعشعش في كِبْدِ السماء، وفي ظِلّ العرش يستعيدُ من رُكام السنين العجاف، زهوَ الحياة، بارزانُ تتلو لكوردستانَ أورادَ الجِراح، ومزاميرَ الشفاء، وتبسطُ لأقاليم الجبلِ صلوات الأضاحي، فلا فضاءَ يتّسعُ لابتهالاتها، ولا أرضَ تحملُ أثقالها، يكفي أنها وحدَها بارزانُ تصعدُ من شغفِ الدّماء.
صهيلُ الجوادِ الأشهب ينأى عن المغيب، تتوهّجُ في تباريحهِ صدى المسافات، وشذى صوتُ البارزانيّ قيثارةٌ تسرّحُ حنينَ الليلِ فوقَ أجفانِ الضياء، لم يعُد دمعُ مهاباد يشهقُ في غسقِ المساء، ولم تعُد جراحُ الأنفالِ تعرفُ البكاء، كيف لا تسبّحُ باسمِه فراشاتُ المديح، ولا تترنّمُ أسرابُ يمام، في هذي الجبالِ التي اتكأتْ على فتنةِ الوحي، وانكشفتْ عن ثوْبِ الطّوفان، كيف لا يلبسُ الفجرُ براعمَ عينيه قصائدَ تنزِفُ عطراً، وتضوعُ خُيلاء.
في غفوةِ الريح، كانت الآلامُ تلملمُ أسمالَها، وتمتطي صهوةَ الجراح، وتغيبُ في سرابِها الباذخ، فالجراحُ ظلالٌ، وإكسيرُ النهارِ من بريقِ سيوفِ بارزان، أرأيتُم الذي استنفرَ الصباحَ مُهراً لا عِنانَ له، فاعتقَ نجومَ كوردستانَ من فخاخِ الليل، ونفضَ عن مِعْصمِ بوتان وبابان، سوران وأردلان، هكار وبادينان، أنقاضَ الغياب، أرأيتُم الذي فتقَ أسرارَ قبورِنا، كي يؤاسيَ أوجاعَنا الدفينة، ويبعثَ لغتَنا القديمة من رمادِها، كيف أنمّقُ العبارةَ كي لا تخونَ المعنى، فالكلماتُ تُحجِمُ مهابةً، والأحرفُ في صمْتٍ وإجلال، فأفوّض البياضَ كي يفكّ طلاسمَ عظمةِ بارزان !
ما زالَ الحلمُ جرساً يبحثُ عن رنينِه، أو صلاةً تتدلّى على جيد المئذنة، فالمسافةُ بين العرشِ وبارزان كالمسافةِ بين الصوتِ وأوتار الحنجرة، وهنا عقْدُ مرمرٍ على نحرِ الشمس تتوهّجُ في أوسطِه أيقونةُ الحُلمِ الكورديّ، من ندى بريقهِ تُضمّخُ حقولُ الذاكرةِ بعبقِ الأمجاد التي استأنست شُرفات الشمال، من هنا يبدأ تاريخُ كوردستان، ففي البدْءِ كان العشقُ، والعُشقُ منبتُه بارزان.
Top