الكورد والإرهاب: الأنظمة الاستبدادية والمجموعات المتطرفة!
في مقاربة اقتفاء أثر التحوّل النوعي في الكفاح المسلح الكوردي، وتشريح آليات التمترس السياسية، نلحظ تضاؤل الصراع الكوردي في مواجهة الأنظمة، وتعاظمه في صد المجموعات التكفيرية والإرهابية التي استهدفت العمق الكوردستاني، وزحفت باتجاه أربيل وشنكال وكوباني، بعيدا عن ادعاءاتها الإعلامية في استعادة مجد الخلافة التليد الذي من المفترض أن يوجّه زحفها نحو مراكز تلك الخلافة البائدة: دمشق وبغداد، مما خلق حالة صراع جديدة في كوردستان، استوجبت مقارعة هذه المجموعات على حساب انتزاع الحقوق الكوردية من الأنظمة الاستبدادية، وهذا الخطر ليس بجديد في منطقة كوردستان، فقد استثمرت كثير من حركات التمرد في تاريخ الخلافة الإسلامية طبيعة المنطقة الجبلية واتخذوها معاقل لهم، كما فعل شبيب بن يزيد الشيباني من الخوارج الذي اتخذ مناطق نصيبين وحران قواعد خلفية في حربه ضد الحجاج، واستقصاء هذا الخطر تاريخيا يكشف عن تعرض الشعب الكوردي لتهديد مزدوج تمثل في السلطة ومناوئيها، ويبدو أن هذه الثنائية حافظت على ديمومتها الزمنية في مسار الصراع على السلطة، حيث تنكّرت الأنظمة المتعاقبة لحقوق الكورد، وحشدت جحافلها لمحاربتهم، بينما لم تتوانَ المجموعات الإرهابية التي أعلنت الحرب المقدسة على الأنظمة الحاكمة عن مهاجمة الشعب الكوردي بعد تصنيفه في خانة المرتدين والمارقين!
في دائرة استهداف الشعب الكوردي، تلاقت أطماع الأنظمة ومناوئيها، ووجهت حراب بنادقها إلى خاصرة كوردستان، في محاولة لوأد تطلعات الشعب الكوردي وبحثه الدؤوب في تحقيق كينونته وخصوصيته، والحفاظ على وجوده.
هذه الثنائية لم نعهدها في تاريخ سائر الشعوب في سعيها للحرية والاستقلال، ففي حياض الاستراتيجيا الدفاعية عن الوجود، التي تجاوزت دلالاتها راهناً الحفاظ على الذات إلى سيادة هذه الذات واستقلاليتها – بسبب المكاسب والامتيازات التي حققها الشعب الكوردي بتضحياته، وتأسيس إقليمه وإقامة حكومته في هولير- تحوّل الأثر الدفاعي الصّاد، إلى الفعل المبادر لردع القوى الظلامية ودحرها في مكامنها، وذلك بناء على الإيمان المدجج بصيغ الذخيرة الفكرية والعقائدية القومية المتفاعلة بحضورها الذهني والوجداني مع الحركة الميدانية، فضلاً عن الاستمالات الدولية في تعاضدها ومؤازرتها للحرب المقدسة على الإرهاب، مما حفّز اللحظة الاندفاعية الثورية لترتقي من الحالة القومية إلى إعلاء القيمة التعبيرية الإنسانية والاحتفاء بها والدفاع عنها.
وفي ردة فعل مناهضة استنفرت قوى الشر أدواتها ومرتزقتها، وشغّلت ميكانيزمات وحشيتها المهيمنة، ووفّرت مناخات الانقلاب الدراماتيكي التي شرّعت الأبواب الموصدة على مصراعيها لتندلق منها جحافل القتل الظلامية، تلك التي استسلمت عقائدياً لفتنة المتخيل الغيبي بحورياته وخمرياته في جنات عدن، ولكن هذا المتخيل لم يمنعها من البحث عن جنة أرضية تلتهم فيها أجساد عذراوات الأيزيديات، وتغب من آبار النفط والغاز، وتملأ جيوبها بالذهب والفضة، فكان اليقين الأرضي له الأولوية كونه مُدخلهم إلى الفضاء الغيبي المتخيل، فانكشفت ملامح تسخير المضمرات الدينية وآياتها الإشكالية في تأويل يفعّل الميتالغوي لصالح الفتاوى الجهادية التي تبرر التفخيخ والتفجير، والصعود على أشلاء الأبرياء إلى مسالك الفردوس المفقود في مهابة لا يمكن الصمود أمام إغوائيتها، فانهارت الحرمات أمام تشريع قوانين تبيح نحر الرقاب، وفض البكارات، ونشدان أقاصي المتعة المضمّخة بنجيع الأبرياء.
بهذه العقيدة المشوّهة سوّغوا الفتك والتنكيل، ولكن المضمر الغائي كان العبث بأمن العباد والبلاد، من أجل إنجاز المرسوم، وإقامة دولتهم الموعودة على أنقاض خلافة غابرة، فلم يكن من مناص أمام الشعب الكوردي إلا ردعهم وكسر شوكتهم، ولكن ذلك حمّلهم عبئاً مضاعفاً إلى جانب مقارعتهم الأنظمة السياسية العنصرية والشوفينية التي استلبتهم حقوقهم وعملت جاهدة على إبادتهم واستباحة مناطقهم.
*أستاذ النقد المعاصر في جامعة الفرات/ سوريا