طارق كاريزي: الوفاق مطلب المرحلة
الكرد امة محاصرة داخل جغرافية محتلة من قبل دول وشعوب الجوار الكردستاني. هذا الوضع الكردي الذي يدفع بحالة التعايش الكردي مع جيرانه الى نوع من التعايش القلق الذي يزعزع الاستقرار، كونه تعايش مبني على اساس غير متوازن. فشعوب الجوار الكردي تفرّدت بالسيادة والسلطات على أرض كردستان وشعبها، ودفعت بالكرد الى هامش الحياة وجمّدت أو حاربت طاقاتهم الخلاقة وامكانياتهم المبدعة ونهبت ثرواتهم.
السلطات العراقية الحالية باتت تقول بصريح العبارة ودون مواربة، بانها لا تجد مبررا لدعم اقليم كردستان بجزء من ريع موارد نفط البصرة. لكن ايرادات نفط كركوك وكذلك نفط خانقين وعين زالة وعلى مدار حوالي قرن من الزمان ذهبت الى الخزانة العراقية وحرّم الكرد من موارد جغرافيتهم، بل وأكثر من ذلك فقد تم ابتياع الاسلحة (بما فيها الكيمياوية) بهذه الموارد الكردستانيةواستخدمت لضرب الكرد وأفنت مئات الآلاف منهم ودمرت موطنهم. هذا الأمر يطرح معطى كون ميزان المصالح والعلاقات المتبادلة بين الكرد والعرب في العراق مختل لغير صالح الكرد، فالعرب تمتعوا بخيرات كردستان لمدة تسعة عقود متتالية، الا ان النخب السياسية العربية غير مستعدة اليوم لتقديم الدعم من موارد الاقليم العربي للعراق الى سكان كردستان، مع ان نسبة لا يستهان بها من ايرادات العراق الحالية، على فرض وجود الوفاق الوطني بين بغداد وهولير، تتجاوز نسبة نفوس الكرد بالنسبة الى اجمالي سكان العراق، تتلقاها الخزانة العراقية من ايرادات كردستان النفطية وغير النفطية.
من هنا تأتي شرعية المطالب القومية الكردية وتجد مبرراتها المنطقية. ان النضال الكردي كلف الشعب الكردي في جميع أجزاء وطنه الكثير من الخسائر في الثروتين المادية والبشرية، علاوة على تدمير البنى التحتية لكردستان ولمرّات عديدة،وذلك كلما تجدد النضال الكردي السياسي والمسلح. لعل ثمرة النضال الكردي الأبرز بعد تضحيات جسيمة، هي تبلور الوعي القومي والوطني الكردي واختمار الهوية الكردية التي بات الكردي خلالها يتحسس وجوده المختلف، خصوصا مع تزايد القهر والعسف والتميّز ضده من جانب الآخر.
شهد النضال التحرري الكردي صراعات بينية مريرة بين القوى والاحزاب الكردية المختلفة أدت الى شيوع الفرقة والتناحر بين هذه القوى، وتضرر جراء هذه الصراعات الشعب الكردي وحركة نضاله التحرري. فالفرقة والشقاق الكردي يخل بالبيت الكردي ويزعزع متانته ويجعل الواقع الكردي هشا يسهل اختراقه وتوجيه ضربات مؤلمة ومؤثرة له من قبل الآخرين.
واقع تأريخ حركة التحرر الكردستانية تظهر حالتين، في احداهما نجد حزب أو قوّة واحدة تقود النضال السياسي والمسلح والانتفاضات والثورات ضد محتلي كردستان، ورغم محدودية المكاسب التي حققتها هذه القوى وهي معنوية في كثير من جوانبها وليست واقعية، باستثناء الذي تحقق في جنوبي كردستان، لكن الضمير الجمعي الكردي في هذه الحالة كان مطمئنا حتى ازاء حالة تراجع او اندحار الثورات والانتفاضات التي قادتها هذه القوى والاحزاب، كون المواجهات فيها قد انحصرت بين الكرد واعدائهم.
والحالة الثانية هي وجود مواجهات ومناكفات بينية داخل البيت الكردي بين أحزاب وقوى كردستانية مختلفة وأحيانا بين جناحين تابعين لحزب او قوة كردستانية واحدة، علاوة على الصراع الاصعب مع قوى الاحتلال التي تنتهك حرمة أرض كردستان. وهذه الحالة الثانية مؤلمة جدا تتضاعف فيها خسائر وتضحيات الكرد وتضعف شكيمتهم ازاء اعدائهم وتنال في الصميم منهم وتؤلم ضميرهم الجمعي.
يمكن أن نقول بأن الحالة السياسية في كردستان سوريا (روجآفا) هي مشهد مألوف الى حد كبير ضمن واقع ومعطيات النضال السياسي الكردي وعموم حركة التحرر الكردستانية. ويمكن القول بأن هناك عوامل دافعة تبرر حالة الانشطار النابعة من اختلاف الرؤى حول تقيّم الأوضاع الكردية وكيفية تحديد آليات النضال الكردستاني. بمعنى اننا لا يمكن أن ندين بالمطلق طرفا كرديا ونعلن التأييد المطلق للطرف الآخر المقابل له. بل من المنطق أن ندرس الحالة بمزيد من التأني والحكمة السياسية التي تفترض أن نضع نصب أعيننا المصلحة الكردية فوق كل اعتبار آخر. وبالنتيجة فنحن شعب واحد نعاني الظلم والحرمان والاحتلال، وهذه الامور جامعة شاملة للكرد مهما اختلفت ايديولوجياتهم وأساليب نضالاتهم ومرجعياتهم السياسية.
وانطلاقا من مبدأ المصلحة الكردية التي لا يختلف حولها اثنان، لابد ايضا من الاعتراف بأن لكل من طرفي حركة التحرر الكردية/ الكردستانية في روجآفا منجزاتهما وهفواتهما ايضا. فالحياة لا عصمة فيها، ومن لا يعمل لا يخطأ، عليه، لابد من التعامل بمزيد من الواقعية بعيدا عن أجواء التشنج. ولابد من تجاوز جراح وآلام الماضي وفتح صفحة جديدة، فالسياسة هي فن ادارة المصالح وتتبع المنافع وسعي نحو تحقيق الاهداف. والسياسة في البيت الكردي تقتضي وحدة الكلمة والموقف وتكاتف القوى والهمم، وايضا تكامل صفحات النضال الكردستاني بين مختلف القوى الفاعلة. خصوصا وان الاطراف المعادية للتطلعات الكردية تحارب هذه التطلعات بكل الطرق وشتى الاساليب، وهي دول تمتلك الكثير من الامكانيات المادية والبشرية وشبكة واسعة من العلاقات السياسية والدبلوماسية الى جانب مصالح مشتركة مع دول العالم وتحالفات وأحلاف تسند بها واقعها السياسي الذي يتقاطع مع الاحلام والطموحات الكردية.
الآخر المصادر للوجود الكردي وحقه في الوجود جغرافيا وديمغرافيا، يستخدم كل هذه القوى والامكانيات الكبيرة المتاحة له لضرب القضية الكردية ودحر القوى الكردستانية ووأد الحلم الكردي في الحرية والاستقلال وتحقيق العدالة والتقدم، ونسبة تفاوت القوى والامكانيات بين الكرد والآخرين كبيرة بحيث يصعب حصره، لكن الاصرار الكردي واصالة هذا الشعب وعمق جذوره التأريخية وكونه أمة كبيرة تمتد على مساحة جغرافية واسعة في قلب الشرق الاوسط ويمتلك ثقافة وتراث وحضارة أصيلة وقضية انسانية عادلة، كل هذه الامور تشكل سدا منيعا أمام صهر الكرد واحتلال أرضهم بشكل نهائي ومصادرة حقهم في الوجود.
شعوب الدول التي تحتل جغرافية كردستان لا مكسب لها في الصراع الذي تديمه الحكومات والانظمة المحتلة لكردستان، وهي وأن كانت خسائرها اقل بكثير من خسائر الامة الكردية في هذا الصراع المرير منذ عقود بل منذ قرون، الا انخسائرهاهي ايضا غير هينة بكل تأكيد، كون العديد من أبناء هذه الشعوب يتم تجنيدهم لمحاربة الكرد في وطنهم، ونسبة كبيرة من موازانات هذه الدول تذهب سدا لقمع التطلعات الكردية. ومن خلال سوق مثال تراجيدي يمكن تصور حقيقته المعاكسة، فيما لو ذهب الكرد لمحاربة أبناء هذه الشعوب في أوطانهم وداخل جغرافيتهم. هذه هي الحقيقة المرّة التي لا يدركها الكثيرون بسبب المغالطات التي تبثها قنوات الادلجة والاعلام المحرّض لمعاداة الكرد وتصويرهم بصورة مشوهة تبرر، ولو على الصعيد الرسمي، محاربتهم والحاق اقسى أنواع الاذى والهزيمة والعقاب بهم.
نقولها بصريح العبارة، هل يحق للكردي أن يحارب العربي في بغداد والبصرة ودمشق ويحارب الفارسي في قم وطهران واصفهان أم يحارب التركي في انقرة واسطنبول وازمير؟ بالتأكيد لا يحق للكردي هكذا حرب ضد جيرانه. وبنفس المنوال ومن منطلق انساني بحت وحقوقي ديمقراطي وحضاري، واستنادا الى مبدأ العدالة والمساواة في التعامل والعلاقات المتبادلة، لا يحق للعربي محاربة الكردي في كركوك وشنكال وقامشلو وكوباني وعفرين، ولا يحق للفارسي محاربة الكردي في كرماشان وسنندج ومهاباد، مثلما لا يحق للتركي محاربة الكردي في ديرسم وأورفة وآمد وقارص ووان.
واقع حال الامور هو ان قوات وجيوش دول شعوب الجوار تخترق السيادة الكردية وتمارس البطش والعنف والحرق والسبي والدمار ضد الكردفي موطنهم منذ عقود، من دون أن تلتفت النخب السياسية لهذه الشعوب الى أحقية الكرد في السيادة على أرضهم. والواقع الكردي السوري في روجآفا هو على نفس المنوال ويشير ايضا الى ان طرفي الصراع، والاصح القول بان جميع فرقاء الساحة السورية بدءا بالنظام مرورا بقوى المعارضة السورية وصولا الى الجماعات المتشددة، لا ترى للكرد أي حق في السيادة. أي ان الكل يصادرون حق الكردي في الحرية والحياة الكريمة. ونقول الحق في الحياة الكريمة لان تجربة عقود من العيش المشترك تضعنا أمام واقع مرّ مفرداته حرمان الكردي من أهم حقوق المواطنة والتعامل معه كأجني غير مرغوب فيه أو مواطن من الدرجة الثانية ومشكوك في ولاءه.
طيب مادام الكردي مشكوك في ولاءه، لم لا يدعونه يقرر مصيره بنفسه وليتم التوصل الى حالة جديدة من العلاقة بين الكرد وجيرانهم من الشعوب التي لا تتقاطع اجتماعيا مع الكرد بالمطلق، بل ان الانظمة السياسية هي التي تواصل احتلال أرض كردستان وتحرم الكردي من حق السيادة وحق المواطنة، وبذلك يحصل خرق واختلال في العلاقة المتبادلة بين الكرد وجيرانهم.
ازاء هذا المشهد الصعب، الخيارات امام الكرد محدودة، ولعل نقطة الارتكاز الاساسية في قوة الكرد هي وحدتهم القومية ووحدة قواهم السياسية. نعم للصراع مبرراته وفي نفس الوقت له وقته وآوانه، نحن الآن أمام مرحلة بلورة الاستحقاق ورسم الخارطة السياسية لسوريا المستقبل. دول أجنبية تتدخل في الشأن السوري وتعلن نهارا جهارا معاداتها للتطلعات الكردية، علاوة على ان الشريك في الوطن مازال مصرّا على غلوه في معادات وعدم فهم الحقوق الكردية التي لا نحددها نحن على صفحات المنشورات، بل من الحكمة الركون الى أساليب شرعية وديمقراطية تتيح للكرد في كردستان سوريا تحديد مصيرهم واختيار نوعية العلاقة التي تربطهم بالشعب العربي السوري وباقي المكونات السورية.
قوّة الكرد الكبرى في وحدتهم على مختلف الاصعدة، ومن الخطأ القاتل التفريط بهذه القوة غير القابلة للتعويض. عليه بات اليوم في منتهى الضرورة السعي لتوحيد القوى السياسية ضمن اطار المصلحة الكردية العليا ومصلحة شعب كردستان سوريا بجميع مكوناته الاثنية، بالشكل الذي يضمن الأمن والاستقرار والازدهار تاليا لسكان كردستان سوريا.
لابد من تجاوز كل صفحات الماضي، فهي بالتالي جزء من عموم المشهد السوري الذي شهد أحداثا ساخنة وارتكبت فيه الكثير من المآسي والاهوال، ولم تكن المناطق الكردستانية السورية بمنأ عن عموم المشهد السوري، لذا نرى من الضرورة بمكان السعي لتحقيق المصالحة السياسية والوفاق الاجتماعي على أرضية مصلحة شعب كردستان سوريا. وبعسكه فحصة الكرد والكردستانيين من البيدر السوري المقبل ربما ستكون أدنى من بكثير من الحد الادنى من توقعاتنا.