طارق كاريزي: العلاقات البينيّة الكردستانية
بغض النظر عن جميع الظروف والمستجدات الآنية والظروف والوقائع التأريخية وحقائق الزمكانات المختلفة، فان العلاقات الكردستانية (وهنا نقصد بالتحديد الجانب السياسي منها) حالة جدلية يستحيل تجاوزها أو القفز من فوقها. أي ان العلاقات السياسية بين القوى والاحزاب الكردستانية حقيقة واقعة لا مفرّ منها، وبالتالي لابد من التعامل معها بروح ايجابية بناءة. والعبرة التي تقتضي مراعاة هذه العلاقات التي يمكن أن نصفها بالحتميّة وكذلك ضرورة الحرص على تنميتها بمنتهى الدقة، هو سعة المساحة التي يمكن للقوى والاحزاب الكردستانية ان توظفها وتستغلهابما يتوافق مع المصلحة العليا لشعب كردستان في عموم أجزاء وطنه. وهذه المصلحة مرهونة بآليات الاستفادة منها براغماتيا من حيث معادلات تكامل أو تقاطع المشاريع الكردستانية، علاوة على المعادلات السياسية المحيطة بكردستان وشعبها، والأخيرة هي عموما عوامل ومعادلات ضاغطة بالضد من المصلحة الكردية والكردستانية.
سرّ نجاح السياسية الكردية/ الكردستانية يمكن تحديد اطره ضمن اجادة اللاعب الكردستاني قواعد وتكتيكات اللعب وفق المصلحة الكردستانية العليا وعدم الارتهان كليا لمشاريع الغير على حساب المصلحة الكردستانية، مع الأخذ بنظر الاعتبار حتمية التداخل السياسي مع المعادلات الاقليمية والدولية التي في الغالب هي عوامل ومعادلات معادية وضاغطة على المشروع الكردستاني، ومن هنا يمكننا تلمس البراغماتية السياسية الكردية ان كانت فاعلة أو عديمة الفعالية، وهنا ايضا يكمن الذكاء السياسي الكردي والفطنة في اجادة اللعبة السياسية وكيفية الدخول في دهاليزها ومن ثم الخروج منها بأقل الخسائر وأوسع قدر من المنجزات الممكنة.
خلال هذا المقال نحاول طرح بعض الافكار الاولية حول امكانية المناورة لدى القوى الكردستانية ومدى استفادة الكرد والكردستانيين عموما من الظروف والمعادلات السياسية الفاعلة في منطقة الشرق الاوسط، حيث تتوسطها جغرافية كردستان التي هي بمثابة القلب الحيوي لهذه الجغرافية القلقة.
من البداهة ان الكرد لا يمكن أن يمارسوا السياسة بمعزل عن بعضهم، أو بعبارة أدق لا تصح السياسة الكردية من دون مراعاة مصلحة الشقيق الكردي، لأن الواقع الجيوسياسي لكردستان مقسمة بين أربعة دول متجاورة، لا تلغي حقيقة وحدة الجغرافية الكردستانية والتداخل الانسيابي بين أجزاء كردستان الاربعة من الناحية الجغرافية والاثنية في آن واحد، والترابط المصيري بين نضالات مختلف اجزاء كردستان وتأثيرات المنجزات الكردية (وكذلك الخسائر) في الجزء الواحد على الاجزاء الاخرى، فكل منجز كردستاني هو في الواقع رصيد معنوي وواقعي للكرد حيثما كانوا، والعكس يقال بحق كل تراجع كردي وكردستاني اينما كان.
وبموازاة التداخل الكردستاني العابر للحدود أرضا وشبعا والترابط السياسي المحتوم بين أجزاء كردستان المختلفة، نجد تداخل متشابك (وتقاطع أيضا) بين الدول المقتسمة للجغرافية الكردستانية. بمعنى ان الدول المحتلة المقتسمة لأرض كردستان تلتقي عند محور معادات ومحاربة التطلعات الكردية مهما كانت عادلة ومحقّة وفق المنظور الانساني والحقوقي. لأن الدول التي رسمت حدودها بعد انهيار الدولة العثمانية، اكتسبت الشرعية الدولية وهي أعضاء في منظمة الامم المتحدة، وهي بلا استثناء غير مستعدة للتنازل عن جزء من جغرافيتها مهما كانت المبررات والمسوغات لذلك.
وبجانب هذا الاصرار الاقليمي على المحافظة على واقع الجغرافية السياسية الحالية للشرق الاوسط والتي هي نتاج مشاريع ومصالح ورؤى القوى الاستعمارية الغربية، هناك اصرار كردي/ كردستاني أكثر قوة واندفاعا باتجاه نيل واكتساب الحقوق الكردستانية كجغرافية محددة الملامح من حيث الابعاد الاثنية والثقافية والتأريخية والجغرافية. فمع كل المشتركات مع شعوب الجوار الكردستاني، فأن للكرد والكردستانيين خصوصياتهم التي تميّزهم تماما عن باقي الشعوب المجاورة. ومما زاد من قوة ملامح الحقوق الكردستانية والمطالبات السياسية الكردية، هو عجز الانظمة المحتلة المقتسمة لأرض كردستان من تحقيق مشاريع العصرنة وبناء دولة المواطنة. وكان هذا حافزا مضافا لاستمرار المطالبات الكردية التي غذّتها بقوة سياسات التميَز والصهر القومي التي مورست من قبل أنظمة حكم دول الجوار الكردستاني ضد الكرد بالتحديد وباقي المكونات الاثنية الكردستانية ايضا.
نحن لسنا بصدد مراجعة تأريخ حركة النضال القومي الكردستانية التي تمتد بجذورها الى عصر العثمانيين والصفويين والقاجاريين، بل نشير الى حقيقة كون البطش والعنف المفرط الذي لجأت اليه الانظمة المحتلة لكردستان، لم ولن تستطيع اطفاء جذوة النضال التحرري الكردستانية، ورغم فداحة الخسائر المادية والبشرية والبيئية الهائلة التي لحقت و(ماتزال) بكردستان وشعبها بسبب سياسات العنف والقهر المتبعة من قبل أنظمة الاحتلال ولجؤها الى الخيار العسكري والمعالجات الامنية، الا ان مشروعية الحقوق الكردستانية لا تغيب عنها شمس الحقيقة، وصفحات النضال الكردستاني ستتواصل وشعب كردستان لا يبخل بالتضحيات التي لا نهاية لها سوى اقرار الحقوق الكردستانية.
ومن الملابسات التي تعصف بصفحات النضال الكردستاني، هي طبيعة العلاقات البينيّة بين القوى السياسية الكردستانية، هذه العلاقات التي هي (كما أشرنا) حتميّة لا مفرّ منها، تقتضي تفاهمات براغماتية عالية المستوى دقيقة التنسيق بين القوى الكردستانية. فالهدف الكردستاني واحد رغم توزع النضال الكردي على أربعة أجزاء فرضتها الظروف الجيوسياسية منذ القرن الماضي.
قاعدة أساسية لابد للقوى الكردستانية أن تلتزم بها، وهي ان جدل العلاقات البينيّة الكردستانية كغيرها من العلاقات المتبادلة لابد وأن تخترقها الكثير من الملابسات التي ربما تبلغ في بعض مفاصلها الدنيا بالمنظار السياسي حد التقاطع، فهي أيضا تجتمع عند مساحة واسعة من المصلحة الكردستانية العليا الجامعة للكردستانيين وجميع قواهم السياسية. والمنتظر من حصيلة الجهد السياسي والدبلوماسي والعسكري كردستانيا، هو التوصل الى معادلات تمهد لتكامل وتكاتف الجهود الكردستانية بالشكل الذي يخدم مصلحة شعب كردستان وتطلعاته لتحقيق الحرية والاستقلال لكردستان أرضا وشعبا.
ان المنظار الحقيقي والواقعي للشأن الكردستاني يقتضي تحريم التقاطعات بين القوى الكردستانية وتجريم الصراعات السياسية والعسكرية البينيّة الكردستانية. ومن المهم اتخاذ ذلك كمبدأ غير قابل للنقض والتجاوز مهما كانت الخلافات والتقاطعات بين القوى الكردستانية. فالكرد دوما اقل امكانية من اعدائهم، ولعل مرتكزات القوّة الكردستانية مردها اصرار وشجاعة الكرد واستعدادهم الدائم للتضحية في سبيل الحرية، وايضا كون محتلي أرض كردستان ومصادري حرّية شعبه ترتجف قوائمهم وهم يطاؤون أرض كردستان كمحتلين غاصبين. والنقطة الابرز في صمود الكرد بوجه الهجمات الشرسة لاعدائهم ومحتلي أرضهم، هي وحدة صف القوى السياسية الكردستانية.
صفحات النضال الكردي/ الكردستاني هي عبارة عن سلسلة متواصلة من الثورات والانتفاضات ضمن سفر امة تنشد الحرّية والاستقلال. هذا السفر الذي يكتسب مشروعيته من أحقيَة كل شعب بالحرية والاستقلال وتقرير المصير. هذا الحق الذي صادرته القوى الاستعمارية مطلع القرن الماضي وواصلت اغتصابه القوى والدول المحتلة لأرض كردستان طوال القرن العشرين وحتى الآن.
من هنا فان النضال الكردي لا يقبل القسمة رغم التقسيم. ومن باب الاشارة والاستدلال نشير الى ان النضال العربي بحكم سعة جغرافية العالم العربي وتباين الخلفية التأريخية لكل بلد عربي وأيضا الاختلافات الثقافية الى حد ما، فان النضال العربي يتوزع على البلدان العربية، ولا يوجد تداخل مباشر بين نضالات العرب كأحد أهم واكبر أمم الشرق، بل ان النضالات العربية موزعة على شعوب العالم العربي. أما بالنسبة للكرد فأن جغرافية بلدهم صغيرة مقارنة بالعالم العربي، وهي عبارة عن امتداد جغرافي متواصل يتواصل معه تداخل اثني بين الكرد والكردستانيين بين مختلف أجزاءهم.
ومن نافلة القول بأن النضال الحالي في كردستان سوريا قد حقق الكثير من المنجزات السياسية والميدانية. رغم تقاطعات أجندات وستراتيجيات جناحي الحركة الكردية، الا ان المشهد في عمومه يبشر بالخير، فمع كثرة الخلافات والمواجهات بين أنصار الطرفين، الا ان الكل في روجآفا قد حافظ على السلم الاهلي، وكان للمجلس الوطني الكردي في سوريا والاحزاب المنضوية تحت مظلته الدور المشرّف في عدم انزلاق وتدهور الاوضاع داخليا.
ومع الاخذ بنظر الاعتبار ضرورة التكامل في النضال التحرري الكردي، فان التغيرات الدراماتيكية المنتظرة أو المفاجئات غير المتوقعة في المعادلات السياسية والواقع العسكري ميدانيا، لا يمكن أن تكون سببا لتراجع الكرد على المستويين السياسي والعسكري. جناحي حركة التحرر الكردستانية في سوريا يمكن ان يتبادلا الادوار سياسيا وعسكريا، خصوصا وانهما موزعان بصورة عامة على محورين أساسيين من محاور الصراع الدائر حاليا في سوريا منذ عام 2011.