ليلة إغتيال "برايەتي"
خلال الايام القليلة المقبلة ستدشن صحيفة التاخي الغراء لسان حال الحزب الديموقراطي الكوردستاني مرحلة جديدة في تأريخها المعروف كصوتٍ مدافع عن القضايا المصيرية للشعب الكوردي وتدخل العالم الرقمي لتواصل تقديم خدماتها في الدفاع عن حقوق شعب كوردستان ومن اجل الحرية والعدالة والسلام مما يستوجب تقديم جزء من تاريخها النضالي الاعلامي للقاريء الكريم والذي عايشتُه مع الاعتذار المسبق لما فاتني تذكّره من الاحداث او المساهمين، ففي خريف عام 1973 كلفني الاخ والمناضل الشهيد دارا توفيق رئيس تحرير جريدة التاخي الغراء والعضو القيادي البارز في الحزب الديموقراطي الكوردستاني بالاشراف على اصدار النسخة الكوردية للصحيفة "برايەتي".
ايامها كانت " برايه تي " تُجهز وتطبع بطريقة رص الحروف حرفا حرفا لتشكيل الكلمات ومن ثم الجمل والسطور، وكانت مهنة عامل الطباعة صعبة للغاية وتتطلب الكثير من الحركة والدقة والتركيز، وايضا شرب الحليب بسبب تعاملهم المستمر مع مادة الرصاص، ولذلك اتفقت مع الاخ فرهاد عوني الذي كان محرك الجريدة الذي لا يتوقف، كمدير ادارة وسكرتير رئيس التحرير وصحفي ومحرر، واحيانا كنتَ تجده في المطبعة يصحح الاخطاء، على ان نعمل لاصدار " برايه تي " بجهاز اللاينوتايب الجديد والذي كان انذاك قفزة كبيرة في عالم الطباعة، وهو ما حدث واصدرت اول عدد من الجريدة، تم تنفيذه باللاينو تايب، بداية عملي في القسم الكوردي ل " التآخي " اذ كنت احد العاملين في القسم العربي منذ 1971.
في نهاية كانون الثاني عام 1974 عاد الاخ الشهيد دارا توفيق من اجتماع للقيادة في كوردستان، وبمجرد وصوله طلب رؤيتي وعندما التقينا في مكتبه مع الاخ فرهاد عوني بدا لي سعيدا جدا وبادرني بالقول: ان الرئيس القائد مصطفى البارزاني قد خصص مبلغ ( 30 ) الف دينار لاصدار " برايه تي " بشكل يومي وهو يرغب في رؤية الصحيفة في اقرب وقت ممكن، وسألني فيما اذا كنت قادرا على ذلك بسبب الصعوبات الجمة التي كنا نعاني منها في اصدار العدد الاسبوعي فكيف بالاصدار اليومي، واجبته بالايجاب رغم معرفتي بابعاد التحدي الكبير، وهكذا بدأت مع عدد من الاخوة والزملاء لا يتعدى عدد الاصابع ومن بين الذين اتذكرهم: فرهاد عوني، المرحوم جلال ميرزا كريم، المرحوم محمود زامدار، عبدالله عباس، صلاح شوان، عبدالرحمن نقشبندي، صادوق (لا اتذكر لقبه)، والخطاط المبدع محمد زاده.
كان التحدي كبيرا فعلا وكان الجميع يعمل ساعات طويلة بكل قدراتهم وفي كل مجال، تحريرا وترجمة وتصحيحا وتصميما، كنا اشبه بخلية نحل، فالكل متحمس لتنفيذ رغبة القائد البارزاني ويحلم بانجاز اول صحيفة يومية في تأريخ الصحافة الكوردية، وعندما خرجت اولى النسخ من آلة الطباعة لم نكن نصدق انفسنا، واذكر ان الاخ الشهيد دارا توفيق زارنا في ساعة متـأخرة من الليل ليطمئن على سير العمل، وهكذا توالى صدور العدد اليومي لـ " برايه تي " واحدث دويا كبيرا في معترك الصحافة العراقية عامة والكوردية خاصة واستقبلها الكتاب والمثقفون بترحاب بالغ قل نظيره، وكانت الاخبار والتقارير والمساهمات تنهال علينا من كل صوب.
مع صدور العدد (27) اغتال ما كان يسمى بمجلس قيادة الثورة انذاك " برايه تي " واصدر قرارا بمنعها، كما طوقت قوات امنه ومخابراته المطبعة للحيلولة دون صدورها، كان يوما حزينا بكل معنى الكلمة، وعندما توجهت الى مكتب الاخ دارا توفيق كان العلامة الكوردي الكبير الدكتور كمال مظهر موجودا، وبادرني الاخ دارا وهو يرى علامات الحزن والاسى مرسومة على وجهي بالقول: نعم انه يوم حزين، وهو عمل لا اخلاقي، ولكن الموضوع مرتبط بالمفاوضات مع النظام الذي تراجع عن وعوده واتفاقاته السابقة ويصر على عدم ضم كركوك الى منطقة الحكم الذاتي، في الوقت الذي يصر فيه الرئيس البارزاني لا على ضم كركوك فحسب، وانما جعلها عاصمة المنطقة باعتبارها قلب كوردستان النابض، اما الدكتور كمال مظهر فقد واساني بالقول: لا عليك يا اخي فقد انجزت عملا رائعا بكل المقاييس وان اسمك واسم زملائك سيدخل التأريخ باعتباركم اول من اصدر جريدة يومية كوردية، نعم " برايه تي " كانت اول صحيفة كوردية يومية رغم ان البعض لم يعد يتذكر ذلك.
اليوم و" التاخي " الغراء تدشن عالم النجومية والاصدار الرقمي الالكتروني واجد العشرات من الصحف والمجلات الكوردية الاسبوعية واليومية بيد الباعة اعرف ان القتلة الذين حاولوا اغتيال " برايه تي " لم ينجحوا في مسعاهم الاجرامي العنصري المتخلف، فروحها تسري في عروق كل مطبوع باللغة الكوردية لتعبر عن ارادة هذه الامة الرائعة التي لا تعرف شيئا اسمه الاستسلام.
تحية للتاخي الغراء في عيد دخولها العصر الرقمي، طوبى للجنود المجهولين الذين صنعوا مجد اليوم.