• Monday, 23 December 2024
logo

سوريا الجديدة: نحو اللامركزية المنفتحة وليس المركزية المنغلقة

سوريا الجديدة: نحو اللامركزية المنفتحة وليس المركزية المنغلقة
نوري بريمو

إذ أخذنا بعين الإعتبار مختلف أنماط الحكم التي خضعت لها بلدان منطقتنا المتتاخمة جغرافياً وشعوبنا الشرق أوسطية المتجاورة تاريخياً، وجدنا بأنّ كل شيئ يجري فيها هو من صنيعة الإنسان وليست هنالك أي وصفة مسبقة الصنع أو جاهزة للتداول الميداني في مجال فنون السلطة والإدارة السياسية للبلدان من حيث كيفية ونوعية الأداء والتعامل ما بين الراعي والرعية، خاصة وأن تجاربنا الذاتية قد أثبتت عبر التاريخ بأنّ معظم الأنظمة الدكتاتورية التي سادت في ديارنا قد جاءت بغالبيتها عبر الانقلاب على البلاد والعباد لتحقيق أغراض دنيوية أو دينية علما بأن بلداننا هي ديار عامرة بحاجة ماسة إلى أنظمة سياسية تدير شؤونها بشكل ديمقراطي توافقي وليس تخالفي.
وبناء عليه وكما أنَّ لكل سلطة خصوصيتها وطبائعها التي تحدد شكلها وجوهرها وتميِّزها عن غيرها، فإنَّ معظم النظم الديمقراطية وبالتحديد الفيدرالية هي ذات جوهر واحد من حيث المبدأ لكنها تختلف عن بعضها من حيث التوجهات والشكل، وهي أنظمة متطورة تنجم عن توافقات سياسية إختيارية تؤدي بغالبيتها في نهاية المطاف إلى تأسيس منظومة اتحادية طوعية بين قوى سياسية متوافقة أو بين قوميات متتاخمة أو بين بقاع جغرافية قريبة من بعضها أو مناطق نفوذ دينية تتآلف فيما بينها لتشكل معاً دولة اتحادية مبنية على أسس وقواسم وإرادات مشتركة.
وبهذا الصدد أود الإشارة إلى أمر في غاية الأهمية ألا وهو، فقد نختلف حول مسميات تلك النظم (فدرالية ـ حكم ذاتي ـ إدارة محلية ـ ...الخ) لكنَّ ما يهمَّنا في هذا الموضوع الذي بات محيَّرا للبعض هو المضمون الذي ينبغي أن يتم التركيز عليه من قبل جميع المعنيين بالأمر وخاصة فئة المثقفين الذين تقع على عاتقهم مهمة مراكمة الحراك الذي من شأنه تخليص شعوبنا من مظالم ورجس الأنظمة المركزية (البسيطة) التي قبعت فوق صدورنا لعهود طويلة، لأنَّ هكذا حراك وحوار حضاري من شأنه الإتيان بالبديل اللامركزي (المركب) الذي بمقدوره أن يجلب الاستقرار العام ويشكل بحكم مؤسساتيته عاملا حاسما للإنصاف ولاستتباب العدالة وسريان خصال حسن الجوار والسلم الأهلي والحياة الحرة الكريمة لمختلف أطيافنا الآدمية، والذي ربما يوصلنا أيضا إلى شراكات اندماجية حقيقية ترضي جميع مكوناتنا وتلبي طموحات أجيالنا وتجعلنا نبني معاً بلداناً عصرية على شكل فضاءات ديمقراطية تعمل على توفير العيش السعيد والآمن لأهلنا الذين لم يهنئوا منذ أمد بعيد بأي نعمة من نعم المساواة والحياة الحرّة التي وهبها الله لبني البشر.
ورغم اختلاف قراءاتنا لبعض القضايا العالقة فيما بيننا بسبب اختلاف منابتنا ومشاربنا وثقافاتنا وتوجهاتنا ومقتضيات مصالحنا القومية والدينية والطائفية وعيرها، وبالنظر إلى ما حصل بين شعوبنا من أزمات خلافية مجحفة في مجال اعتداء الأكثرية على حقوق الأقليات، فإنَّ أحداً لا يستطيع أن ينكر بأن تجربة الدولة الفدرالية (الاتحادية) هي أنموذج ناجح على شتى الأصعدة والميادين العالمية كما هو الحال في كل من أمريكا وسويسرا وألمانيا وغيرها من بلدان المعمورة، خاصة وأنّ غالبية الدول الفدرالية في دنيانا هذه قد تطورت بشكل ملحوظ وتفوَّقتْ على غيرها وباتت قوية من الناحية المادية والمعنوية والقدراتية، وذلك نظراً لما تتمتع به هذه النظم المتطورة من محاسن تستجلب الفائدة الأكيدة لأمم تلك البلدان، ونظراً لما يتوفر في هكذا إتحادات من إرادة جماعية تسامحية بين المركز والأقاليم في مجال تحقيق الحقوق وأداء الواجبات، في حين نجد بأنَّ عاصمة الدولة الاتحادية مثلاً تحظى بصلاحيات دستورية واسعة تفوق بكثير مما تناله الأقاليم أو المناطق ذات الإدارة الفدرالية التي تتبع لتلك الدولة، إذ يتم في العادة فرض قيود معينة على الأجزاء التي ينبغي أن تخضع لقرارات المركز ولو كان ذلك على حساب مصالحها المحلية، وبموجب ذلك فأنّ الولاية الصغيرة التابعة للمؤسسة الفدرالية تفقد داخل الإتحاد حق ممارسة السياسة الخارجية التي تكون في العادة من صلاحيات المركز بشكل حصري، وبالمقابل فإنّ المركز يجد نفسه مضطّراً للتنازل بمقتضى الدستور عن بعض سلطاته الداخلية إن دعت الضرورة أو تطلبت الحاجة.
زد على ذلك نجد بأنّ السلطة المركزية للدولة الاتحادية تتعاطى مع أقاليمها وفق خطط وبرامج مستفتى عليها سلفا ومنصوص عليها دستوريا، وتخضع هكذا دول لأحكام القانون الدولي عندما تتعامل مع الأسرة الدولية التي هي بدورها لا تعترف سوى بالحكومة المركزية أو بمعنى أكثر دقة بالإدارة اللامركزية (الحكومة الفدرالية).
وبناء عليه فإنَّ الدول التعددية أو بالأحرى (المركبة من حيث تعدّد مكوِّناتها) السائرة في منحى إعادة بناء نفسها من جديد كسوريا التعددية المأزومة منذ أكثر من 5 سنوات والغائصة حاليا في بحور من دماء أبنائها والتي تمر بحالة مخاض عنيف من شأنه أن يؤدي إلى فوز المعارضة السورية والإرادة الدولية وإسقاط نظام الأسد وحدوث تغييرات جمّة، ينبغي أنْ تستند في نشأتها إلى مبدأ وسلوك التوافق السياسي الديموقراطي بين مختلف أطراف المعارضة للجلوس حول طاولة مستديرة والإتفاق للتأسيس لدستور دائم يقرُّ بالتعددية واللامركزية السياسية، كخيار ديمقراطي ويدعم بنيانها ويصون حاضرها ويخطط لمستقبلها ويمدها بالقوة الجماعية ويعمل على تنظيم التواصل المؤسساتي فيها بين كافة الأفرقاء بشكل توافقي يضمن تحسين العلاقات وتخصيبها ما بين الحكومة الاتحادية وبين الأقاليم أو الولايات المكونة لها، وفي هذه الحالة فإن الشعب الكوردي الذي يشكل ثاني أكبر قومية في البلد والذي وقف منذ البداية مع الثورة السورية وضد نظام البعث، يعطي الحق لنفسه ويطالب بالفدرالية لكوردستان سوريا في ظلال سوريا الفدرالية الجديدة، وذلك كخيار استراتيجي أخده على عاتقه منذ البداية المجلس الوطني الكوري في سوريا.
وللعلم فإنَّ الدساتير الاتحادية هي التي تحدد إختصاص وصلاحيات كل شريك من الشركاء، لذلك فإن الدولة الاتحادية تستمد وحدتها وتماسكها وشرعيتها وقانونيتها من قوة المواد القانونية التي يتم تدوينها في الدستور وتطبيقها بشكل اختياري وليس قسري، مما يوضّح بأن المنظومة الاتحادية المبنية على التعددية القومية أو الدينية أو السياسية هي عبارة عن نمط حكم دستوري يعتمد اللامركزية المنفتحة بدلاً من المركزية المنغلقة، وللعلم أيضاً فإنَّ هنالك ثمة أنواع عديدة من الدول الإتحادية أو بمعنى أخر أنماط كثيرة من اللامركزيات السياسية والجغرافية في حكم البلدان التي يُستحسَن إدارتها وفق أساليب ديمقراطية متعددة الأشكال والألوان وفي الوقت ذاته ذات جوهر عصري يكمن في إنسانية بنيتها الفوقية وفي مدى الاهتمام بالبنية التحتية التي لا يجوز تركها عرضة في مهب رياح مصاعب الدمقرطة التي لا بديل عنها سبيلا سلميا لتحقيق الفدرلة وصونها من الداخل عبر حمايتها من جموع المتربصين بها.

Top