الحوار الذي لا بد منه
الحوار الذي يدعو اليه الكورد مع بغداد، لوضع النقاط على الحروف ولحسم القضايا العالقة التي أصبحت بمثابة مشكلات مزمنة، حوار سهل بعيد عن التعقيد، لكن تحقيقه يمر بمحطات تتطلب من الطرفين حسم أمريهما في أكثر من مسألة، الأولى إمتلاك بغداد الاستقلالية في اتخاذ القرار وإدراك المتغيرات التي غدت واقع حال على الأرض، والتصريح علناً عن الرغبة في خوض الحوار من أجل إيجاد الحلول، وتأكيدها على عقد العزم على نسج علاقات طبيعية مع الجميع لصالح الجميع، والإقرار بالأخطاء المرتكبة، والتعهد بعدم تكرارها في المستقبل، والإبتعاد عن المواقف المتناقضة مع الدستور ومع الأسس الديمقراطية في كل ما يتعلق بالشأن الكوردستاني. واللجوء الى معادلة أخرى واضحة المعالم وبعيدة عن السابقات والتفاعل معها، قائمة على المصالح العامة ومستندة على مقومات إيجابية غير تقليدية.
وفي المقابل، لقد حان الوقت بالنسبة للكورد كي يشرحوا ما في أذهانهم بوضوح، ويعلنوا عن مطاليبهم التي تتجسد في استحالة تخليهم عن حقوقهم الطبيعية، والتأكيد على أنهم عازمون ومتشوقون الى تقرير مصيرهم وتحقيق طموحاتهم القومية المتواضعة المشروعة، كاستراتيجية بعيدة المدى، ويعلنوا للملأ ما يريدونه، وما هي سياساتهم كي لا يُساء فهمها، بل كي يتم فهمها وتفهمها وتفهم ما في طياتها من رغبات وطموحات، لكي لا تبقى التكهنات أسباباً للخلاف والاختلاف، وتترجم على الساحة السياسية بصور مبعثرة وأحيانا أخرى معكوسة، وبالتالي تجعل الإتفاقات تجميلية وتكتيكية مؤقتة، ونوعاً من تجميد الإختلاف تحت عنوان أو آخر.
والسؤال هنا: هل في الأفق ما يفيد بأن هناك مؤشرات على نجاح الحوار القادم بين الكورد وبغداد ؟ خاصة والجميع يعلم أن (بغداد) حاولت مرات كثيرة، فرض المعادلة الميدانية على الكورد وتفوقها عليهم بالقوة، رغم إنها فشلت في كل الحالات.
الجواب، ربما، لأن بغداد تدرك أهمية الدور الكوردي في حل مشكلات العراق وتصحيح مسار العملية السياسية وضمان الامن والاستقرار فيه، ولأن بغداد تعلن في الاعلام والاجتماعات الرسمية مع الكورد، وغيرهم، عن ترحيبها بالمطالب الكوردية وبالحوار مع أربيل، لكن على الأرض يجب أن تحرر بغداد ذاتها من إفرازات العلاقات المتوترة السابقة والمفاهيم البالية ورغبة اللعب بأوراق محترقة، كما عليها الإبتعاد عن ممارسة السياسات العدائية والاستعلائية السابقة التي كلفت الجميع أثماناً باهظةً.
في بغداد، حتى الآن لا نرى أي تغيير في السياسة المتبعة والمواقف المتخذة تجاه الإقليم وشعبه، بل نرى فيها سياسيين ومتنفذين ونواباً يسعون عبر تحركات مشبوهة الى تمزيق وحدة الصف الكوردي وإغراق الإقليم في مشكلات داخلية، للحيلولة دون ممارسة شعب كوردستان لحقوقه القومية الديموقراطية، والتي من بينها الاستفتاء الذي تعتبره العقلية المتخلفة المعادية للديمقراطية وكأنه جريمة العصر. لذلك تعلن الكثير من المصادر الرسمية وغير الرسمية في أربيل بأنها لاتثق بتعهدات بغداد وتعتبرها عاصمة لا تنفذ وعودها ولا تحترم عهودها وتتنصل من إتفاقاتها قبل أن يجف حبر التوقيع عليها.
رغم ذلك، ورغم السلبيات الكثيرة، فإن الأمر الذي لابد منه بين أربيل وبغداد، هو الحوار، ولكن المطلوب الأهم، هو الوضوح في غايات الحوار، والحذر والدقة أثناء اللعب بأوراقه، وعدم القبول بأن يكون مفتوحاً وبلا أفق، والإتكاء على الزمن والتستر خلف الشعارات، أو أن يكون حواراً من أجل الحوار فقط.