ثورة أيلول... إنطلقت لتنتصر
نستذكر هذه الايام حدثاً يؤكد سيادة النزوع إلى الموضوعية في التعامل مع الماضي، تعاملاً صريحاً بناءً وممنهجاً مدفوعها بالحرص والمسؤولية عن كل ما يخص الكورد وكل ما يضمن الخير لهذا الشعب حاضره مستقبله.
ثورة 11 أيلول 1961 (الوريث الشرعي) لكل الثورات الكوردية، لانها جاءت تتويجاً لكل الطاقات المخلصة والافكار الحريصة والجهود النيرة التي قارعت الظلم والغدر وناضلت بشكل أو بآخر من أجل رفاه الشعب وكرامته واستقلاله، ومن أهم مزاياها، استنادها الى مبادىء الحزب الديمقراطي الكوردستاني واستنارتها بعقيدة البارزاني الخالد وإرثه النضالي، وحرصها على ان تكون نبت الارض الوطنية والقومية ونبت التجربة الحية، فضلا عن ادراكها الواقع وعدم اغراقها في النظريات وانزلاقها نحو الجوانب السلبية والضعيفة في الواقع على حساب المبادىء والمطامح.
ثورة أيلول عاشت الواقع بكل حقائقه وتفاعلت معه من خلال الرؤية الواعية، وسعت لفهمه وتطويره، لذلك حظيت بدعم كل الكورد في العالم وكل العراقيين الشرفاء، كما حظيت بتشجيع وبركة ورضى أعلى مرجعية دينية شيعية في العراق، حيث أبى السيد الحكيم الكبير أن يصدر فتوى بعدم شرعية هذه الثورة، رغم أنف حكام بغداد وضغوطهم المتواصلة.
عند الحديث عن الثورة، لابد ان نستهله بالحديث عن الحزب الذي فجر الثورة وقائده الرمز الذي قاد الثورة وقاد الحزب بجدارة متناهية، وكذلك الظروف الآنية التي أدت الى اندلاعها، فالحزب الديمقراطي الكوردستاني، الذي تأسس في 16 آب 1946، ناضل منذ يوم تأسيسه في سبيل تحقيق الأماني الكوردية التي كانت تئن تحت وطأة الحكم الجائر وتصرفاته العدائية واحتل الحزب مكاناً بارزاً ومشهوداً في كل المناسبات والمظاهرات الشعبية ضد الحكم البائد.
بعد ان تكللت الجهود المخلصة للعراقيين بـتفجير ثورة 14 تموز 1958، وبوركت الثورة من قبل أبناء الشعب بعربه وكورده، خطت الثورة في اشهرها الاولى خطوات نحو ساحل الامان والوحدة الوطنية والاستقرار، وعاد البارزاني الخالد ورفاق سلاحه ومسيرته الملحمية من الاتحاد السوفيتي السابق، واستقر في بغداد وأعلن في اكثر من مناسبة انه الجندي المخلص لثورة تموز، وبعودته أصبح للكفة الكوردية في ميزان القوى وزناً ظاهراً، ووضع الخنجر الكوردي في شعار الجمهورية العراقية رمزاً وتقديراً للكوردي الثائر، ونال البارتي الاجازة الرسمية للعمل كحزب سياسي، وصدرت جريدة (خه بات) بشكل علني، وتعاون الكوردي مع اخوانه بنيته الصادقة وقلب صافٍ من أجل العراق المزدهر وحماية الجمهورية.
اما الجانب الآخر، فأخذ يتهرب من التزاماته وعهوده، وانتهج عبدالكريم قاسم أزاء الكورد، نهج واعمال ووسائل حكام ايران وتركيا السابقين، وذلك بتأجيج بعض الكورد على بعضه الآخر، وتسليح بعضه من أجل استعماله ضد بعضه الآخر، وفي صيف 1960 أراد وفد كوردي (من البارتي) مقابلة قاسم، فانتظروا شهراً، ولم يحصلوا على الموافقة، وطلب منهم تقديم مذكرة بدلاً من المقابلة، وقدموها فعلاً، الا ان قاسم لم يرد على المذكرة.. حينها تأكد للبارزاني الخالد ان ما قيل عن قاسم من مدح وثناء لم يكن في محله، وقبل ذلك وفي لقائهما الاول، بعد عودة البارزاني الخالد من الاتحاد السوفيتي وفي قراءة أولية لشخصية قاسم كان البارزاني قد أدرك بان الزعيم قاسم، لا يهمه مستقبل العراق والعراقيين وسعادة شعبه بقدر اهتمامه بالاحتفاظ بموقعه في قمة السلطة عن طريق التفريق بين القوة السياسية والقومية والدينية..
في خريف عام 1960 عندما كان البارزاني مصطفى في زيارة إلى موسكو، اتهمه قاسم علناً بعمالته لحلف سنتو، نعم في تلك الاثناء وعندما كان قاسم يوجه اتهاماته، كان البارزاني بجانب نيكيتا خروشوف والقادة السوفيت الآخرين على منصة الشرف ينظر الى استعراض عسكري في الساحة الحمراء بموسكو، وبعد عودته الى بغداد، وفي شهر كانون الاول من ذلك العام (1960)، وبتحريض مباشر ومكشوف من الحكومة، اجتمع عدد من الغوغائيين امام دار البارزاني ومقر الحزب الديمقراطي الكوردستاني في بغداد وهم يهتفون ضد الكورد، ويقولون ما لا يصح قوله، خصوصاً في ذلك الزمان والمكان، وبعدها أرادوا اقتحام الدار والاعتداء على من فيه، فتم تفريقهم بالقوة، وبذلك تم هدم جسر آخر بين الكورد والحكومة العراقية.. بعدها استعد البارزاني، الذي تجلت مواهبه السياسية والقيادية منذ مطلع شبابه، والذي امتزج تاريخ الوطنية والسياسة في كوردستان بحياته وبحياة عائلته الكريمة, في كانون الثاني 1961، لترك بغداد والعودة الى كوردستان، إذ ان ولادته في بيت كوردستاني ذي زعامة وطنية وسياسية حملته ارثاً كبيراً فحافظ عليه على أكمل وجه، بل اضاف اليه وزناً ووهجاً عندما تحمل المسؤولية بشجاعة فائقة وكافح وكابد للمحافظة عليها ولاعلاء شأنها وللاستلهام من الاحداث والتطورات والمتسجدات السياسية.
كان البارزاني الخالد، دائماً، صاحب الدور الوطني المحوري الذي يتصف بالحزم والصرامة في الازمات السياسية حاول التريث والانتظار لانه كان حريصاً على الوحدة الوطنية ومانعاً لتعميق الانقسام الوطني ومفكراً في ما بعد ما اندلاع القتال بين الكورد والحكومة أكثر من تفكيره في كسب المعركة، ودخلت الحالة مرحلة جديدة ليست للمعادلات الوطنية او السياسية الداخلية مصلحة فيها، وتوالت تراجعات الحكومة، وتعددت الاجراءات السلبية، وبدأت حملات واسعة لاعتقال أنصار الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وتجاهلت الحكومة دوره الايجابي وتمثيله الشرعي للكورد، وانحازت الى رؤساء عشائر كوردية معروفة بعدائها للبارزاني والبارتي، وزودتهم بالاسلحة والنفوذ، فاعتدوا على الفلاحين وانتقموا من كل من صفق للثورة والبارزاني والبارتي. وفي بغداد، وفي عهد الجمهورية، أصبح التنكيل بالكورد نوعاً من أنواع الوطنية، وفي آخر لقاء بين البارزاني الخالد وممثل الحكومة، العقيد حسن عبود آمر موقع الموصل، اخفقت المفاوضات لان الطائرات الحكومية قصفت بشكل مركز وشديد المكان المقرر لعقد الاجتماع، وبلغ التوتر ذروته، عندما قدم البارزاني الخالد مذكرة شديدة اللهجة الى الحكومة وتضمنت احد عشر مطلباً.. ورد عليها قاسم باتهام شركات النفط بتحريض الكورد على الثورة ودعمهم.. وانطلقت الشرارة الاولى لثورة الكوردستانيين في 11 ايلول 1961.. عندها قيل للعالم إنها مجرد مناوشات سرعان ما تهداً، ولكن بعد اسبوع واحد من اندلاع القتال بدا واضحاً ان الطرفين يتجهان نحو نقطة اللاعودة، وتنبه الجميع الى خطورة ما حدث وتحركت القوى الخيرة والمثقفة والواعية لتخوض نقاشات بدت وكأنها لن تنتهي، وبات من الواضح أن تلك الحرب وجدت لتبقى، كي يبقى الزعيم على كرسي الرئاسة، والاكثر من هذا وجدت الحرب لتصبح تاريخياً من أكثر الحروب الداخلية عنفاً وضحاياً، وبدا في حقب كثيرة منها انه ليس من الممكن تصور نهاية لها، وفي بداية سريعة وفي مدة قياسية استطاع الثوار تطهير مناطق وساعة من القوات العراقية النظامية المتواجدة فيها ومن العشائر التي سلحتها الحكومة لمعاداة الكورد، واصبحت الثورة نضالاً من أجل تقرير المصير وتلاحم فيها الكوردي المثقف مع العامل والفلاح ورجل الدين والموظف، وأخذت الطائرات تقصف دون رحمة كل مناطق كوردستان، ومثلما اكتمل الوعي والادراك السياسي لدى الكورد، هكذا نمت عندهم الروح القتالية، وظهرت في الافق علامات ولادة جيش ثوري كوردستاني، لان خبرة وتجربة البارزاني الخالد وعمله في جيش جمهورية كوردستان في مهاباد، ولدت عنده قناعة بأن البارتي بحاجة الى جيش دائم ذي إعداد وتدريب وتربية سليمة، واصبح الجيش العراقي نفسه المصدر الرئيس لاسلحة الجيش الثوري الكوردستاني، وسلك البارتي الذي لا يعرف الاستسلام للاعداء، طريق النضال والثورة، فناضل نضالاً شاقاً ضد الحكم القاسمي والحكومات المتعاقبة لرفض الحالة المأساوية وتحقيق الطموحات القومية المشروعة، وشهدت كوردستان اعظم ثورة كوردية معاصرة وشهدت تطوراً هاماً في اطرها السياسية والقومية والعسكرية والاجتماعية والثقافية والادارية.
لذلك تعتبر ثورة أيلول انعطافة تاريخية في مسار الحركة التحررية التي رسمت المستقبل الكوردي بمداد من ذهب.
كانت للثورة جولات دفاعية عن الذات والحقوق ضد جيوش الحكومات المتعاقبة، وجولات في الحوار معها، اذ كان قائدها البارزاني الخالد مؤمناً بأن الحوار جزء من النضال، وكان بعد كل جولة حوار هدنة هشة سرعان ما كانت تنهار جراء المكشلات المستعصية وغرور قادة الجيش وشوفينيتهم العمياء، وجراء عدم الوفاء بالتعهدات والمواثيق، واستجابة لمصالح (تجار الحرب) فان كل الحكومات العراقية حاولت خلخلة التركيبة السكانية في المناطق الكوردستانية، لاسيما كركوك وخانقين وشنكال، واستمرت الحالات هذه حتى 11 آذار 1970 حيث تم التوصل الى اتفاقية تاريخية أقرت للكورد حقوقهم القومية ضمن اطار الحكم الذاتي لكوردستان العراق، ولكن, اندلع القتال مرة اخرى في 1974 ليستمر حولاً كاملاً وجاءت مؤامرة الجزائر الشنيعة في 1975، حينها هدأ القتال ولكن البارتي لم يستكن بل شدد من نضاله أكثر فأكثر وقدم خيرة مناضليه فداءً لمسيرته وتحقيق أماني الكوردستانيين حتى توج ذلك بثورة جديدة (ثورة كولان) التي تعتبر خير نموذج للثورة الحديثة، ومنهلاً من مناهل النهوض الوطني...