الإنقلاب بالإنقلاب يذكر
في الليلة التي لم ينم فيها الكثيرون إلا لدقائق، تابعت أخبار الإنقلاب والاحداث المتسارعة في تركيا، والتي كانت تحمل في دواخلها مشاعر متناقضة، وفي غالبية اللحظات كنت أتذكر أحداثاً مرت، وأتخيل أخرى، ربما تمر وتحدث. وخالجني الشعور بالغدر والقهر وقتل الحلم والامل وأنا أقارن بين بغداد وأنقرة، فرحت بالاحداث هناك، خصوصاً عندما إندحر الانقلابيون، وتألمت تجاه الواقع في بغداد، لأن الاختلافات كثيرة وربما لا تقارن. لأن الساعات كانت طويلة، تناولت الحدث كما يحلو لي، دون ملل، وعبرت عن مشاعري وأفكاري، وبعيداً عن تحفظاتي على سياسات الحكومة التركية تجاه الكورد والحرب ضد داعش، بدأت بدراسة الصراع القائم وتحليل الموقف سياسياً، فوجدت أن الديمقراطية عندهم ضمانة فعالة لها سند قوي لا يقبل التهاون والتخلف، سند يخوض صراعاً واضحاً وحقيقياً داخل كل المؤسسات غير العسكرية ويعزز مواقف الذين يرفضون الانقلاب.
عندما شاهدت المواطنين العلمانيين والاسلاميين واليساريين والليبراليين المتسلحين بالوعي والارادة وهم ينزلون الى الشوارع، ويحتشدون في الميادين ويعترضون القوات العسكرية والدبابات بالايدي والحجارة، ويهتفون اعتراضاً على ما حدث، ويتعاملون بشرف ويحاولون فرض كلمتهم وقرارهم، وإرجاع الجنود الى ثكناتهم. تأسفت على مواقف البغداديين الذين لم يمنعوا البعث الغاشم عندما أطاح بثورة تموز، وعلى مواقف الذين إنخدعوا بشعارات ضبابية بعيدة عن الواقع الفعلي وتخدم أجندات سياسية معينة فهاجموا البرلمان العراقي بالحجارة والزجاجات بدلا من الدفاع عنه، وأهانوا النواب بدلا من حمايتهم.
في تلك اليلة تذكرت أن أسوأ فترتين عاشهما الشعب العراقي هما الفترتان اللتان جاءتا بعد إنقلابي البعث الفاشي في ستينيات القرن الماضي، واللتين سادت بعدهما الصراعات الحزبية والفئوية والطائفية والمذهبية، والإعدامات والتصفيات الجسدية، وأصبح الاتهام والتخوين والتسقيط والتهكم والتشكيك بكل شيء، وتسفيه الطروحات والمواقف وخلط الاوراق مهمة يومية لأصحاب الوجوه الكالحة، أما الاسراع في إصدار أحكام الاعدام والادانات فقد كان هو الآخر السلعة الرائجة والمادة الدسمة لسلسلة من الأزمات المتلاحقة التي ألقت بظلالها السلبية على واقع المجتمع العراقي، وتذكرت الحروب المتتالية في كوردستان ومع ايران وفي الكويت، حروب عصفت بالبلاد وخلفت عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والأرامل والثكالى والأيتام، وكيف أوصلت عمليات السرقة المنظمة للمال العام البلد إلى حافة الهاوية.
(صدام) المجرم الإنقلابي، خلال سنوات حكمه، رغم الموازنات الفلكية، لم يستطع تطوير البنية التحتية وتأمين الأمور الأساسية للحياة الكريمة للمواطنين بحيث تتناسب مع نصف أو ربع الإمكانات المادية التي كان يمتلكها البلد، ناهيك عن عدم توفير أماكن السكن. وفي عهده إنتشرت ظاهرة الهروب نحو المنافي واللجوء الى جبال كوردستان، وفي المقابل تنعم المقربون منه بالإمتيازات والمناصب العالية والحياة المرفهة حيث كانوا يقضون غالبية أيام السنة في أجمل البلدان.
في الصباح، عندما شاهدت الجنود الاتراك وهم يرمون مستلزماتهم العسكرية ويضعون أيديهم فوق رؤوسهم (أذلاء) كدليل على الاستسلام، تذكرت جنود صدام وهم يستسلمون للمنتفضين الكورد والشيعة في آذار1991، وللجماهير والقوات الامريكية في 2003، كما تذكرت آلاف الجنود الذين انهزموا أمام العشرات من الدواعش في الموصل وصلاح الدين والانبار وديالى تاركين أسلحتهم وملابسهم العسكرية، ولا أخفي عليكم، تصورت الشخص الذي دمر البلاد وجلب الشر وزرع الفتنة والمأساة والعذاب والجراح، والذي لم يتصرف يوماً كرجل دولة خلال سني حكمه، تصورته وهو يقود إنقلاباً عسكرياً ويصعد على ظهر دبابة، لأنه ما زال يلتمس ويتآمر من أجل تسلم السلطة، وكل العقلاء يلمسون دسائسه وجهوده المشبوهة من أجل عودته الى الواجهة..