العراق وشماعة البعث وداعش
ما كدنا ننتهي من نظام صدام حسين وثقافة حزبه وأساليب أجهزته الأمنية في التسقيط والتشهير والفبركات التي يعلقونها على شماعاتهم البائرة، وهي مجموعة التهم السخيفة في العمالة للامبريالية والصهيونية لكل من يخالفهم في الفكر والرأي، والتي أضافوا لها بعد انقلابهم في تموز 1968م العمالة للمنشقين في سوريا وللفرس (المجوس) في ايران، ناهيك عما كانوا يسمونه بالجيب العميل توصيفا لواحدة من كبريات حركات التحرر الوطني في الشرق الأوسط والعالم إلا وهي الحركة التحررية الكوردستانية.
قلنا ما كدنا نخلص من هؤلاء المرضى سياسيا ووطنيا حتى ابتليت البلاد بذات الفيروس والجرثوم الذي انتقل عبر جينات الثقافة البعثية والدكتاتورية إلى معظم مفاصل الطبقة السياسية العراقية والإدارية الجديدة التي ورثت نظام القائد الضرورة بشكل يتطابق تماما معه في السلوك والتصرفات مع اختلاف الأسماء والعناوين، فمنذ صدور قانون الاجتثاث سيء الصيت الذي تسبب في تدمير البلاد وتمزيق نسيجها الاجتماعي والسياسي وحتى الأخلاقي، وهذه الفيروسات تفعل فعلتها في تسقيط الأشخاص تحت طائلة وشماعة البعث والنظام السابق، ومنذ سنتين شماعة داعش وما يترتب على تلك الاتهامات من عمليات تقتيل واستباحة وتعذيب وتدمير ممتلكات، كما حصل لأملاك البعثيين وبيوتهم وممتلكاتهم خارج القانون، ولما يحصل اليوم تحت شعار التعاون مع داعش من انتهاك فضيح لحرمات الأهالي وحقوق الإنسان.
لقد أنست داعش أفعال البعثيين ومن ماثلهم في كل من سوريا وليبيا واليمن، وربما كان لأنظمة هذه البلدان اليد الطولى في تربية وإنتاج هذه الفيروسات الفاشية، ومن ثم نشرها في البيئات الجديدة التي ظهرت بعد انهيارها وسقوط هياكلها الإدارية، لكي تقنع الأهالي بأنها ارحم وأفضل مما يجدوه الآن، وفعلا نجحت تلك الماكينة الإعلامية والنفسية والفشل الذريع للأنظمة الجديدة التي ورثت أو قامت على أشلاء تلك الدكتاتوريات، أن تجعل أغلبية الناس تترحم على أيام صدام والقذافي وعلي عبد الله صالح والأسد، إلا أنها ابتليت بثقافة رهيبة ستأتي عليها تدميرا وتمزيقا بعد انتهاء حقبة داعش وتحرير الهياكل الكونكريتية للمدن والبلدات التي كانت تحتلها، حيث نجحت داعش في تمزيق أواصر المجتمعات والمكونات بشكل يصعب خلال المستقبل المنظور التعايش حتى بين أبناء نفس المكون، بسبب الاتهامات التي سيوجهها الجميع للجميع في غياب أي آلية ذات مصداقية مهنية ومحايدة ومتحضرة للقانون أو للجهات القانونية لملاحقة عشرات الآلاف أو ربما مئات الآلاف من الذين سيتم اتهامهم وتعليق تلك الاتهامات بشماعة داعش كما فعلوا في شماعات الانتماء للبعث والأنظمة السابقة في بقية البلدان، وراح ضحية ذلك الملايين من البشر بين مشبوه ومتهم ومبعد ومهمش ومحاصر في لقمة عيشه، مما ولد بيئات الفساد والتمزق وانتشار العنف والإرهاب وبالتالي فشل الدولة وإفلاسها.
علينا أن ندرك إن أربعين عاما من حكم البعث أنتج الكثير من الظواهر التربوية والنفسية والسلوكية المنحرفة، لكننا وبقليل من الحكمة والإنصاف لا نستطيع أن نتهم ملايين من الذين كانوا ضمن صفوفه أو صفوف اللجان الشعبية للقذافي أو المؤتمر الشعبي لعلي عبد الله صالح ومثلهم في سوريا، بأنهم جميعا مجرمين ومشكوك في وطنيتهم بمجرد إنهم كانوا ينتمون لتلك الأحزاب والحركات التي تتحكم بأرزاقهم ومستقبلهم وكل تفاصيل حياتهم ولذلك انتموا إليها تحت سقف (الستر على النفس) كما يقول الدارج العراقي، وكما فعل مئات الألوف ممن لم يستطيعوا أن يتركوا مدنهم أو قراهم التي احتلتها داعش كما في الرقة والموصل والفلوجة.
ولذلك ولأجل التوجه الجدي والحقيقي لبناء دولة متحضرة مدنية فنحن إزاء إعادة نظر كلية في توجهاتنا والعودة إلى دراسة الأسلوب الكوردي في التعامل مع أتباع نظام صدام والبعث وعملائه حتى أولئك الذين اساءوا إلى شعب كوردستان بعد انتصار انتفاضة ربيع 1991م، علينا فعلا أن نحطم تلك الشماعات التي نعلق عليها فشلنا وإفلاسنا، وبدلا من أن نذبح بعضنا من الوريد إلى الوريد تحت طائلة الاتهامات بعيدا عن آليات القانون والحضارة، وقبل أن نشيد بتجربة نيلسون مانديلا في تعامله مع النظام العنصري في بلاده، علينا أن نذهب إلى كوردستان وندرس تجربتهم في التسامح والتعايش والبناء وكيف نجحوا في الحفاظ على أقدس شيئين يمسان حياة ومستقبل وحيوية أي مجتمع في العالم، ألا وهما الأمن والسلم الاجتماعيين، اللذان بواسطتهما أثبتت قيادة كوردستان وشعبها الصمود أمام أشرس هجمة همجية يتعرض لها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وأمام اكبر عملية نزوح إليها دون أن ترتفع معدلات الجريمة عما كانت عليه سابقا.
حقا إن تجربة كوردستان جديرة بالوقوف أمامها واعتمادها أساسا للتقدم إلى الأمام، إن كنا فعلا نهدف إلى بناء دولة مدنية متحضرة ومجتمع أنساني خالي من العقد والاتهامات وشماعاتهم المهترئة.
[email protected]