• Monday, 23 December 2024
logo

هل يصلح المثقف للسياسة داوود أوغلو نموذجا

هل يصلح المثقف للسياسة داوود أوغلو نموذجا
هل يصلح المثقف للسياسة داوود أوغلو نموذجا

ريناس بنافي باحث في الفكر السياسي والاستراتيجي
هل ينجح المفكر والفيلسوف والمثقف في ترويض العمل السياسي بأدوات المفكر ، أم تنجح السياسة في لخبطة ونسف أوراق المفكر ؟
ان العلاقة بين السلطة والثقافة ملتبسة، على الرغم من أن العصر الحالي شهد وصول مفكّرين الى كرسي الحكم ، عبر الانتخابات او الثورات اهمها
1- تجربة الروائي والكاتب المسرحي التشيكي فاتسلاف هافل الذي تزعم الثورة المخملية في تشيكوسلافيا سابقا لإسقاط النظام الشيوعي عام 1989 م .
2- والشاعر ليبولد سنغور والذي يعد واحداً من أهم الشعراء الأفارقة ، عندما استطاع أن يحكم السنغال لحوالي العقدين رغم أنه تخلى في النهاية عن السلطة بطوعه زاهداً فيها .
3- وفي ايرلندا، أوصلت الانتخابات الشاعر مايكل هيغينز الى الرئاسة العام 2011، حتى تندر الشعب على فوزه وكتبت الصحافة ان هيغينز سيطعمنا الشعر في ظل الازمة المالية العميقة، يقول مايكل هيغينز وهو يتبوأ السلطة في بلاده: رأيت وشعرت بألم الشعب الإيرلندي ومازلت أشعر به، أدرك الحاجة الى التفكير في تلك القرارات التي اتخذت في كثير من الأحيان، دون تحسب لنتائجها.
واذا كانت للروائي والمسرحي والشاعر ثمة فرصة للنجاح عند الانخراط في العمل السياسي ، فهل سيكون للمثقف المفكر ذات الفرصة ؟
4- تجربة الدكتور برهان غليون الذي يعرفه الكثير من خلال كتبه ومحاضراته ، لا من خلال المناورات والمناكفات السياسية ، تدل على فشله في الممارسة السياسية ومردّ ذلك يعود الى تلك الاحتجاجات التي وجهت له بسبب طريقتة في إدارة عمل المجلس الوطني ، ومن قبل أسماء مهمة لها وزنها على ساحة العمل السياسي كهيثم المالح ووليد البني وغيرهم ، وإخفاق المجلس حتى الآن في بناء شخصية كارزمية يلتقي حولها كل أقطاب المعارضة ، على غرار ما حدث في ليبيا عندما استقطبت شخصية المستشار مصطفى عبد الجليل الجميع من إسلاميين وليبراليين .
وتعتبر تجربة الدكتور برهان غليون أحد الأمثلة اليوم على تماهي المثقف مع الأجندة السياسية برهان غليون المثقف السوري وأستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون بالعاصمة الفرنسية باريس، الذي برز في خضم الربيع السوري كزعيم، يسعى الى إسقاط النظام، وشكّلت تحركاته السياسية ورحلاته المكوكية أنموذجا لمعارض بدا وكأنه في طريقه إلى تسلم مقاليد الحكم.
5- حسن الترابي بعُيد خروجه من السجن في العام 2005، إذ نصحه الاديب الطيِّب صالح ان يعكف على عقله وروحه فينجو بنفسه اذا اراد ان يصبح حقاً نبراساً يستضيءُ به الناس، محذرا اياه من الانغماس مرة اخرى في مستنقع السُّلطة والحكم والتحالفات والمؤامرات. ويشاطر الطيِّب صالح الكثير من رجال الفكر في ضرورة ان يعكف المفكر على (العقل) أي الفكر , ويترك السياسة والسلطة.
وفي مقالين كتبهما الطيب صالح، اطنب فيهما في تفصيل مأساة الترابي الحائر بين عجز المفكر وشهوة السلطة، وتساءل الطيب صالح ايضا فيما اذا الترابي قد فشل في وقف انهزامية الفكر في داخله امام شهوة السياسة؟ يقول الكاتب بابكر فيصل بابكر في هذا الصدد: إن ( الترابي وقع في فخ التناقضات المتولدة من ثنائية المفكر- السياسي، جعلت منهُ طاغية مستبداً داخل السلطة, وداعية للحُريَّة والديموقراطية وحداثياً مستنيراً خارجها).
ولخص احد الاسلاميين رأيه في الزعيم والمفكر السوداني حسن الترابي فقال عنه: "إنه من أفضل المفكرين الإسلاميين في العالم، ومن أسوأ السياسيين فيه كذلك".
6- بيغوفيتش الرئيس المفكر
يعتقد كثيرون في علي عزت بيجوفيتش (1925 – 2003) الرئيس المفكر، أو المفكر الرئيس أول رئيس جمهورية للبوسنه والهرسك بعد انتهاء الحرب الرهيبة في البوسنه، مثالا لمفكر نجح في تسخير ثنائية السلطة والفكر في تحقيق الاستقرار والتطور في بلاده، لاسيما في قدرته على عدم الإنجرار وراء السلطة والافادة من منافعها، اذ ظل مخلصا لفكره وما يشترطه من حيادية كاملة تجاه المصالح والمنافع، وظل على الدوام حريصا على ألا تنحسر عنه صفة الفيلسوف والمفكر الإسلامي، وهو الذي ألف أهم الكتب عن الإسلام بين الشرق والغرب.
7- مهاتير محمد.. منطق الفكر
ليس مهاتير محمد (رابع رؤساء وزراء لماليزيا فى الفترة من 1981 إلى 2003)، سوى مفكر قبل ان يكون رجل سلطة. وفي خضم الدبلوماسية والفعاليات السياسية كان يتحين الفرصة ليطرح أفكاره، وفي محاضرة له في الأزهر الشريف في مصر، لخّص مهاتير محمد اشكالية الفكر في التطبيق قائلا: المصريون غارقون فى الحديث عن الحجاب، وهم لا يستطيعون صناعة إبرة خياطة، ليس هذا من الإسلام في شيء. امتد نشاط مهاتير السياسي لما يقرب من 40 عاما، و يعد من أكثر القادة تأثيراً فى آسيا كما يعد من أكثر المعارضين للعولمة.
8- داوود أوغلو لم يكن استثناءً
نادرًا ما يرتاح الفيلسوف بالجلوس على مقعد السلطان، فالأسئلة الفلسفية النابعة من ضميره وعقله النظري على السواء لا تتوقف أبدًا عن التدفق كل لحظة بشكل لا يسمح له أبدًا بالتأقلم التام مع غابة السياسة، ولعل داوود أوغلو لم يكن استثناءً، فالسنوات الطويلة التي قضاها أستاذًا ومُنظرًا وفيلسوفًا وكاتبًا خلال التسعينات ومطلع القرن الجديد لعلها اتسمت براحة البال أكثر من سنواته الأخيرة التي قرر فيها الاقتراب من السلطة لتجربة أفكاره على الأرض، وهي تجربة وجد نفسه بسببها على رأس السلطة التنفيذية في تركيا في أقل من عشر سنوات.
لم يرُق الكرُسي أبدًا لأوغلو، فالرجل الذي عمل كمستشار لرئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان قبل أن يتم تعيينه رسميًا وزيرًا للخارجية في 2009 وحتى 2014 حين قرر الحزب أن يتولى هو قيادته، يُعاني في موقعه الجديد الذي لم يتم فيه عامين كرئيس لوزراء الدولة الأثقل سياسيًا واقتصاديًا في الشرق الأوسط، وهي مُعاناة تُنبع من المسافة الكبيرة التي اكتشفها بنفسه بين نظرياته "العثمانية الجديدة" كما تسمى، والتي حاول بها إعادة تركيا لموقعها السابق الذي تخلت عنه قبل مائة عام أو يزيد، وواقع الشرق الأوسط الذي تعقّد للغاية خلال قرن كنتيجة للاستعمار والديكتاتوريات العسكرية، وهي مسافة أزّمت من موقفه أولًا كأحد أبرز المسؤولين عن الملف الخارجي، وأعطته فكرة ربما عن صعوبة الانتقال بسلاسة ورشاقة بين النظرية والواقع.
لم تكن تلك هي معاناة داوود أوغلو الوحيدة، فالرجل الذي انتقل من أروقة الجامعات والكتب والورق إلى أروقة الخارجية التركية ودبلوماسيتها العريقة وعلاقاتها المتشعبة مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، سرعان ما بدا الخلاف بينه وبين رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، والذي لا يرى بديلًا عن النظام الرئاسي المركزي لحماية إرادة الشعب التركي من الدولة العميقة كما يسميها.
كان الصدام قد بدأ بالفعل بين الفيلسوف والرئيس العام الماضي حين وجد أوغلو نفسه في حيرة مع أردوغان حيال تعيينات الهيئة العُليا للحزب.
رُغم تلك الضغوطات حاول الفيلسوف أن يبقى في الكُرسي لعل وعسى يستطيع مجاراة اللعبة السياسية ويثبت نفسه، لكن القشة التي قصمت ظهر البعير كما يُقال أتت منذ أيام، حين قرر حزب العدالة والتنمية سحب سُلطة تعيين قيادات الحزب الفرعية من رئيس الحزب، وهو أوغلو حاليًا، وإيكالها للهيئة العُليا التي انتقاها أردوغان، بعد أن ظلت تلك السُلطة لأربعة عشر عامًا في يد رئيس الحزب، وبينما قال المدافعون عن القرار بأن الحزب المؤسس عام 2001 كان في الأصل يمنح تلك السلطة للهيئة العُليا حتى قرر منحها بشكل غير اعتيادي لأردوغان، فإن الغالبية تعلم تمامًا أن توقيت سحب تلك السلطة الآن وثيق الصلة بالخلافات بين الرجلين.
وبين مفهوم الثقافة الناقد والمتجاوز للواقع في أغلب الأحيان، ورؤية السلطة المصلحية التي تسعى الى إعادة إنتاج الواقع وتسييد مشروعيتها فيه، يظل دور المفكر او المثقف الرئيس، مقرونا بمدى قدرته على المزج بين قوة السلطة وطاقة الفكر .وربما اتاح وصول المفكر الى السلطة اصابته بدائها، ليصبح الانفصام بين (المُفكر) و (السياسي) داخله, مثار اتهامات له من قبل الآخرين، الذين يتعجلون الحكم بأن انتصار (السياسي) على (المفكر) أمر لابد منه، بفعل مغريات السلطة، مستشهدين بحوادث التاريخ .
ريناس بنافي باحث في الفكر السياسي والاستراتيجي
لندن
[email protected]
Top