نصر اليوسف: رأي في المسألة الكوردية
شيء من التاريخ:
بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها الثقيلة، شكّل المنتصرون فيها دولاً جديدة من أنقاض الامبراطوريات التي اندثرت بنتيجتها. وبسبب هذا التشكيل العشوائي للدول، تمزق الشعب الكوردي بين تركيا وإيران والعراق وسورية.
لم تحظ مأساة الشعب الكوردي بما تستحقه من اهتمام في تلك الحقبة، ولم يشعر عامة الكورد بما استجد، وذلك لأسباب وعوامل موضوعية عدة؛ من أبرزها أن قروناً من العيش المشترك تجمعهم مع شعوب الدول الوليدة، التي ضُـمّوا إليها.
وبعد بضعة عقود، وبمثابة رد فعل على تنامي الوعي القومي لدى العرب، بدأ الشعور القومي لدى الكورد يتنامى، وبدأت المشاكل تتراكم، وبدأت النفوس تتنافر.
عرفت في حياتي عدداً من الكورد، جمعتني ببعضهم علاقة مميزة. أذكر على سبيل المثال لا الحصر ـ المخرج السينمائي غزوان بريجان، والصحفي ولاتو عمر. وجمعتني بالبعض الآخر علاقة قربى، أو علاقة جوار، أو أوعلاقة زمالة، أو معرفة طيبة أوسطحية،،، إلخ.
كلمة "كوردي" لم تكن تحمل ـ بالنسبة لي ـ أي شيء غير عادي؛ لا سلبياً ولا إيجاباً. كانت مجرد تعريف إضافيٍّ لهوية مواطن سوري. ولم يتبادر إلى ذهني أبداً تساءلٌ من قبيل: من أقرب إليْ ـ الكوردي السوري؟ أم العربي السوري أو العراقي أو الأردني أو اللبناني أو المغربي أو السعودي،،، إلخ. وبقيت على سجيتي هذه حتى عام 1997، عندما دعاني صديق سوري كوردي إلى تناول الغداء في بيته. وعلى هامش ذلك الغداء، دار نقاش بيني وبين مدعوّ آخر ـ ناشط سياسي سوري كوردي يعيش في موسكو. وخلال النقاش، تلفّظ ذلك الناشط بعبارات صادمة ـ كـ"الاحتلال العربي"، و"المستوطنات العربية"، و"عرب الغمر"،،، ـ وأكد لي ذلك الناشط أن جمرات الغضب الكوردي تتوهج تحت رماد القمع العربي!!!
كنت أعرف أن ثمة ظلما حقيقياً وقع على شريحة من السوريين الكورد، وكنت أعرف أيضاً أن للكورد حقوقاً قومية مسلوبة ومهضومة في سورية. وكنت ـ كما غالبية السوريين ـ أرفض كل ظلم يقع على أي سوري. لكني لم أكن أتوقع يوماً أن أُتّهم ـ أنا المقموع ـ بالقمع، فقط لأني عربي.
لم يكن صعباً عليّ رد التهمة عن نفسي، حيث ذكرت له أني عندما استدعيت للخدمة الإلزامية، فُـرِزت إلى كتيبة عادية مقاتلة، ترابط على الجبهة، رغم أني عـربي أباً عن جد، ورغم أني سينمائي أكاديمي (أي أن من حقي أن أخدم في الإدارة السياسية)، ورغم أني مترجم روسي وإنغليزي (أي أن من حقي أن أخدم في هيئة التدريب). أما مُضيفنا الكوردي، فقضى خدمتَه الإلزامية مترجماً مع باسـل الأسـد، نعم مع باسل الأسد؛ لا أكثر ولا أقل.
وكان من السهولة بمكان أن أفنّد تعميم التهمة على العرب، حيث ذكّرت ذلك الأخ بمجزرة حماة الكبرى، التي تم فيها قتل عشرات الآلاف من العرب الأقحاح، وتهجير مئات الآلاف منهم، وتدمير أكثر من ثلث المدينة تدميرا شاملاً؛ الأمر الذي لم يحدث لأي طيف من الأطياف السورية.
حاولت جاهدا أن أقنع محاوري بأن من يقمع الكورد ويظلمهم، تحت يافطة عروبية، هو نفسه من يقمع العرب بالدرجة الأولى، إضافة إلى كل مكونات الشعب السوري. إنها عصابة عائلية ـ طائفية تتخذ من "العروبة" ستاراً، تعمل من ورائه على تأليب السوريين بعضهم ضد البعض الآخر.
نبرة معاصرة:
عندما تفجرت ثورة الحرية والكرامة، كان من المنطقي ومن المتوقع أن يقف الكورد كتفاً إلى كتف مع إخوتهم الثائرين. لكن الانتهازيين من الكورد، وجدوا في الثورة فرصة سانحة لإرضاء شهواتهم السلطوية. لقد اختلسوا ورقة الحقوق القومية المشروعة والعادلة من أبناء جلدتهم، واتخذوا منها ورقة للمتاجرة مع جلادهم، حول إرضاء شبقهم السلطوي. ومثل هذا الموقف لا يليق به سوى تسمية "العهر السياسي."
الخلاصة:
رغم كل ما ذكرته آنفاً، وبصرف النظر عما يطرحه القوميون المتطرفون، فإن للكورد حقوقاً قومية لا بد من الاعتراف بها. ولا بد من الإقرار بأن من حق الكورد أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم، وأن يختاروا صيغة العيش التي يريدون. لكن الحكمة تقتضي أن نتعاون جميعاً على التخلص من النظام الديكتاتوري الوحشي، وإقامة نظام حكم ديموقراطي في البلاد. وفي ظل هذه الأجواء الصحية يمكن بحث كل المشاكل المزمنة، وإيجاد حلول عقلانية لها، بحيث "لا يموت الديب ولا تفنى الغنم". أما المراهنة على الاصطياد في المياه العكرة، فتؤسس لحروب لا يعرف إلا الله متى وكيف تنتهي.
كلنا شركاء