نظرية الحروب الجديدة ماري كالدور....ريناس بنافي باحث في الفكر السياسي والاستراتيجي
حياتهم ثمن ا لصراعات الهوية والتعصب في أفريقيا وآسيا وأوروبا. وإذا كان هناك من سمة رئيسة لعالم
ما بعد الحرب الباردة، فهي موجة الصراع والكراهية التي تفجرت بين الجماعات والقوميات على
مستوى عالمي في كل بقاع الأرض تقريب ا .
ومن معاينة ميدانية لحال العنف الذي ساد الكرة الأرضية في نهاية الألفية الثانية ولاسيَما في أوروبا
الشرقية وأفريقيا والبلقان وما وراء القفقاس، لاحظت ماري كالدور، وجود نمط تطلق عليه) الحروب
الجديدة ( ويصفها بعض الباحثين بأنها حروب مخصصة أو حروب غير رسمية وحتى حرب ما بعد
الحداثة لتمييزها عن الحروب الكلاسيكية.
الحروب الجديدة تنشب في إطار تآكل الاستقلال الذاتي للدولة الحديثة وانهيارها وتنشب بوجه خاص في
إطار تآكل القدرة على الاحتكام إلى وسائل العنف المنظم والشرعي، وينهار هذا الاحتكام من أعلى الدولة
ومن أسفل المجمع، فأهداف الحروب او العنف ما بعد الحداثة بحسب كالدور تدور حول سياسة الهوية
قياسا إلى الغايات الجيوسياسية أو الأيدولوجية للحروب القديمة، ورغم أن تلك الحروب بمعظمها محلية،
لكنها تنطوي على حشد هائل من الروابط العابرة للأمم بحيث أن التمايز بين ما هو داخلي وما هو
خارجي بين العدوان والهجوم من الخارج والقمع والهجوم من داخل البلد تضيع أو ان الفارق بين المحلي
والحكومي يغدو عصيا على التحديد والبقاء؛ فالخوف والحقد ليسا مستوطنين بل تتم تعبئتهما في بعض
الفترات لأغراض سياسية، ومن الممكن تفسير حجم العنف لا باعتباره نتيجة من نتائج )الخوف والحق(
بل باعتباره انعكاسا لصعوبة اعادة تركيب )الخوف والحقد(.
وهذه الحروب تجري في مناخ يتسم بثورات في الشؤون العسكرية وبتأثر العلاقات الاجتماعية وبتشابك
المحلي مع الدولي بواقع العولمة، ومن تبعاتها تآكل الدولة وتآكل القدرة على احتكار وسائل العنف
الشرعي المنظم . والمثال الواضح للحرب الجديدة هي حرب البوسنة والهرسك التي حصلت في إطار
سياسة الهوية والتي تسميها ماري كالدور بأنها إقصائية أي تنزع الى التفتيت، بخلاف المشاريع القومية
التي حملت عناوين تحررية لبناء الأمة. ورغم إنها حروب داخلية او حروب أهلية محلية ولكنها تنطوي
على حشد من الروابط العابرة للأمم بحيث يصعب التمييز بين ما هو داخلي وما هو خارجي. ) 1 )
وتتضمن هذه الحروب عناصر من حقبة ما بعد الحداثة وعناصر من حقبة الحداثة على السواء، وقد جاء
هذا التنظيم الجديد للعنف بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الإيديولوجيات الكبرى وتفكك الإمبراطوريات
التوتاليتارية الشمولية ، وتنشب هذه الحروب ما بعد الحداثة في إطار تآكل الاستقلال الذاتي لمجال الدولة
وفي إطار انهيار قدرة الدولة على احتكار وسائل العنف الشرعي المنظم ويبدأ هذا التآكل والانهيار في
أعلى قمة الدولة وأسفل المجتمع. ) 2 )
إن أهداف حروب ما بعد الحداثة تدور حول الهوية قياس ا الى الغايات الجيوسياسية او الإيديولوجية
للحروب الكلاسيكية، حيث تم استبدال الخلافات الإيديولوجية التي ميزت الحقبة السابقة في إطار العولمة،
بانشقاق سياسي ما بين الكوزمبوليتية )الروح العالمية غير القومية( المرتكزة على قيم التعددية الثقافية
الكلية الشاملة من جهة وسياسة الهويات المحلية والجزئية من جهة أخرى وتركز الباحث ماري كالدور
على مسألة إعادة تركيب العنف وتنظيمه وفق مفهوم )سياسات الهوية( والذي يعني المطالبة بالسلطة
والثروة اعتماد ا على هويات محددة سواء كانت الهويات وطنية او قبلية او دينية او لغوية. وتتعلق
الأهداف السياسية للحروب الجديدة بالمطالبة بالسلطة على أساس هويات تقليدية في ظاهرها، الأمة،
القبيلة، الدين، غير إن بروز سياسة الهويات الفئوية لا يمكن أن يفهم على أساس المفاهيم التقليدية بل
ينبغي أن يفسر في سياق التنافر الثقافي المتنامي بين أولئك الذين يشتركون في الشبكات العابرة للأمم .
)3(
وتضيف ماري كالدور نشأت سياسة الهوية الجديدة من تفكك او تأكل هيكليات الدولة الحديثة، لاسيما
الدولة المركزية السلطوية، فانهيار الدولة الشيوعية بعد 1989 وفقدان دول أفريقيا وجنوب آسيا التي
استقلت بعد الاستعمار، شرعيتها ، كلها عوامل توفر المناخ المواتي لنشوء إشكال جديدة من سياسة
) الهوية. ) 4
أن الأفراد )عموما( يفضلون رؤية أنفسهم إيجابيين أكثر من )Henri Tajfel ويقول)هنري تاجفل
) رؤيتهم لأنفسهم سلبيين )أي أن الأفراد مدفوعين إلى تحقيق هوية اجتماعية إيجابية(. ) 5
فقد تسعى الجماعة الضعيفة إلى الاندماج والانصهار في الجماعة المسيطرة. مثل حال بعض المهاجرين
من المجتمعات الضعيفة إلى المجتمعات القوية. او المنافسة المباشرة مع الجماعة المسيطرة، وهو ما ينتج
عنه الصراع.
وقد انتهى )تاجفل( إلى أن الهوية الشخصية ترتكز على الخصائص الفردية )مثل السمات الشخصية(،
بينما ترتكز الهوية الاجتماعية على العلاقات الاجتماعية، حيث تبرز الأولى خلال تعامل الأفراد معا،
وتبرز الثانية عندما تتفاعل الجماعات معا )وهو ما دفع البعض إلى القول بأن تلك النظرية تفسر الكثير
) من أسباب الصراعات بين الجماعات أو الدول(. ) 6
وهناك محاولات كثيرة للإجابة على أسئلة الهوية المعقدة، ومحاولة تفسيرها، وتفسير آليات تكوّنها،
وكيف تصنع الجماعات هويتها؟ وهناك العديد من النظريات التفسيرية الفردية والجماعية التي حاولت
مقاربة موضوع الهوية للجماعات من منظور الأسباب النفسية الاجتماعية التي تشكل محور اهتمام علم
النفس الاجتماعي. ومن أبرز النظريات في تفسير العلاقات بين الجماعات: نظرية الهوية الاجتماعية،
ونظرية تصنيف الذات، والتصنيف الاجتماعي، ونظرية المقارنة الاجتماعية، والأفكار النمطية،
والتعصب، والتفاوض. كل تلك النظريات تحاول تقديم فهم الهوية وآليات عملها داخل العلاقات بين
الجماعات ودورها في تأجيج الصراعات الدموية.
وترى نظرية الهوية الاجتماعية أن الصراع الذي يحدث بين الجماعات يزيد من بروز هوية اجتماعية
معينة على حساب هوية اجتماعية أخرى. ويعتقد بعض المحللين، أن مفتاح حل الصراع الذي يحقق
الرضا هو العمل على خفض البروز عن طريق استراتيجية )إعادة التصنيف( التي تقود إلى تبني هوية
جديدة أكثر شمولا من جانب أعضاء الجماعات المختلفة، أو عن طريق استراتيجية )إلغاء التصنيف(،
وبالطبع تعتبر استراتيجية )إعادة التصنيف( أكثر ملائمة من استراتيجية )إلغاء التصنيف(، فالأولى تعمل
على توحيد الجماعات تحت مظلة جديدة، تشكل هوية شاملة للجماعات المنضوية تحتها، ولكن في جميع
الحالات لا تزال قضايا الهوية في إطار البحث، وما زالت صراعاتها بحاجة إلى حلول، والتفسيرات
وحدها لا تكفي، فيبدو أن صراعات الهوية تحتاج إلى سياسة وثقافة جديدتين. ) 7 )
فمثلا الحزب السياسي القوي يكون دائ ما سعيه لاحتلال موقع الريادة، أما الحزب الضعيف قليل النفوذ
فغالب ا ما يكون سعيه سلبي ا أو يسعى فقط للتقليل من الفروق القائمة بينه وبين الأحزاب الأخرى ، فبالنسبة
للجماعات البشرية والسياسية القوية قد تتحول رغبتها في التمايز إلى عنصرية واستعلاء على الآخرين
وبشكل غير موضوعي، أما بالنسبة للجماعات الضعيفة فإن البدائل المعرفية لها حول طبيعة الظرف
الاجتماعي أو السياسي العام المحيط بها ودرجة قدراتها قد تؤدي بها إلى الانصهار في جماعة أخرى
أكبر وأقوى منها. او إلى المنافسة المباشرة مع الجماعات السياسية الأكبر منها.
-- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- --
( 1 ( ماري كالدور الحروب الجديدة والحروب القديمة تنظيم العنف في الحقبة الكونية ترجمة حسني زينة
دراسات عراقية الطبعة الأولى ) 2009 ( بغداد اربيل بيروت ص – - 6
( 2 ( المصدر السابق ص 10
( 3 ( المصدر السابق ص 13
( 4 ( المصدر السابق ص 118
( 5 ( د. أحمد أبو زيد / سيكولوجية العلاقات بين الجماعات قضايا في الهوية الاجتماعية / الصادر سلسلة
عالم المعرفة الكويتية العدد رقم ) - 326 ( الناشر المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الطبعة -
الأولى أبريل - 2006 م ص 12
(