لماذا نتباكى على تدمر!؟........جين الحسن
العالم أجمع ينادي بتدمر الآن! نعم هي مهمّة و مسجّلة على لائحة التراث الانساني العالمي و تتخوّف اليونسكو من تدميرها كما تم تدمير مدينة نمرود القريبة من الموصل في آذار الماضي.
أنا شخصياً من المهتمين و المختصين بحماية التراث الثقافي و أعرف أن تاريخ البشرية مهم جداً, ولكن..... ماذا عن الناس ؟؟
لا يقولون أن ذبح الناس في شوارع تدمر جريمة بحق الانسانية ولكن يقولون أن مجرّد وصول داعش إلى تدمر و كسر و خلع بوابة المتحف جريمة بحق الانسانية!
لماذا لا يتحدثون عن حجم الدمار الذي قام به الجيش السوري و ما يزال من حفر للخنادق و شق طرق و تمركز آلياته العسكرية في المنطقة الأثرية بالإضافة الى تعرّض بعض المدافن الملكية للنهب من قبل لصوص الآثار وقصف بعض المباني المهمة مثل معبد بعل؟
لماذا لا يتحدثون عن مصير السكان الذين بقوا تحت رحمة داعش الآن؟؟ 200 قتلوا و 600 محتجزون حتى الآن و البقية تأتي.
لنسرد بعض الوقائع:
لقد تم إفراغ كافة الكنوز المهمة و القيّمة, ليس في تدمر فقط بل في كافة المدن السّورية, أذكر أنني عندما كنت لا أزال في سوريا عام 2012, و نحن نتجول في المتحف الوطني بدمشق بمرافقة آمينة المتحف التي قالت أن القطع المهمّة تم تفريغها من المتحف ووضعها في أماكن آمنة! لكن آية أماكن هذه!! الله أعلم, في حفظ النظام السوري؟
و قد صرّح المدير العام للآثار و المتاحف السورية أنه تم نقل كافة مقتنيات المتحف من تدمر بمساعدة الجيش إلى أماكن آمنة.
إذا كان قد تم تفريغ متحف دير الزور, فهل ستغيب عنهم تدمر "لؤلؤة الصحراء"؟ لقد كتب مدير الشؤون القانونية في المديرية العامة للآثار و المتاحف في صفحته على الفيس بوك أنه تم نقل كافة مقتنيات متحف دير الزور عبر شحنات جوية عن طريق مطار دير الزُّور العسكري و بحماية الجيش السوري بعمليات نوعية وصلت حد الاشتباك مع الجماعات المسلحة على حد قوله:
" التاريخ 2 أب 2014
الســـاعة الرابعة بعد الظهر/ المكان: أمام بوابة متحف دير الزور...
تقف شــاحنة بحمولة 4 طن (قدمها الجيش الســوري) وقد أتم بعض موظفي الآثار بمســاعدة عناصر الجيش نقل الصناديق التي تحوي موجودات متحف دير الزور إليها، وبدأ هدير محركها يتصاعد بعد أن أدار سـائقها مفتاح التشغيل لتبدأ رحلةً محفوفةً بالموت... مســكونةً بشتى صنوفِ المخاطر... والوجهة مطار دير الزور العســكري عبر حي القصور والجورة مروراً بجوار الصالة الرياضية فبدايات طريق تدمر ــــــ الدير مُتجهين شــرقاً إلى المطار العســكري المُتاخم لقرية "المريعية" الواقعة تحت سـلطة المــســلحين...."
ثم يصف إكمال العملية بنجاح:
"وفي لحظةٍ فارقةٍ من عمر الزمن لم تحدُث من قبل بتاريخ الشــــعوب، وقد لا تحدثُ مرةً أخرى في عمر البشـــرية، رُكِنت الصناديق الكبيرة الممتلئة بالقطع الأثرية بجوار جثامين شـــهداء الجيش الســوري في الوقت الذي بدأت فيه مدفعية الجيش تدكُ معاقل المسـلحين في "المريعية" لتؤمن إقلاعاً آمناً لطائرة "اليوشـن" في رحلتها الخالدة مســاء ذاك اليوم التاريخي وهي محملةٌ بالمجد والعزة والخلود عبرت ســماء دير الزور بســرعةٍ كما لم يحدث من قبل وأكملت رحلتها بأمان."
نحن نعلم أن تدمر مباعة و أن النظام السوري قد قام بإفراغها من القطع المميزة, اللّهم إلّا بعض التماثيل الجصيّة المستنسخة التي لا قيمة لها خارج المتحف كونها صنعت لغرض التثقيف العلمي و العرض المتحفي.
ربما تدمر لن يصيبها شيء! فهي على الأقل مازالت موجودة و لا توجد تماثيل في الشوارع لتحطيمها و لا أظن أن النظام قد ترك في متحفها تمثالاً واحداً خلال هذه السنوات الأربع لكي تقوم داعش بتدميرها بذريعة انها أصنام, كل ما بقي هو أعمدة و أقواس و مدّرج وأبنية حجرية جميلة لن يقوموا بتضييع وقتهم بتدميرها. بل على العكس أصبحنا نراهم يستعرضون مهاراتهم في الذّبح من على مدرجها الروماني, و كما هو معروف فإن التنقيب السري جاري على يد أتباع النظام بكافة الأحوال, فالنظام و داعش وجهان لعملة واحدة.
تدمر كانت "مدينة" نعم, لكنها كانت أشبه بمدينة متحفية يزورها الناس للتّمتّع بالعرض المتحفي في الهواء الطّلق أما السّكان فكانوا يقيمون في الجهة الاخرى من المدينة و في محيطها و كان لهم أبنية جديدة مختلفة تماماً عما في تدمر من الآثار الرومانية، لكن لم لا نتساءل عن حلب القديمة و حمص القديمة؟؟؟ ؟ المدن القديمة التي كانت لاتزال مأهولة بالسّكان و كانوا يعيشون في نفس السّكن القديم الذي يعود بعضه الى عدة قرون من الزمن!!!
أنا لا أقلل من قيمة تدمر بل أريد أن أقول أن المسألة أصبحت مسألة أولويات الآن, فهناك المهم و هناك الأهم.
فهل أصبحت هذه البقايا أهم من البشر؟ إذا كانوا قد أنقذوا (كما يقولون) ما يمكن إنقاذه, فلم هذا العويل و البكاء إذاً؟؟
يجب أن ننوه بحقيقة ثابتة و هي أن كافة مواثيق و اتفاقيات اليونسكو غير ملزمة عملياً و يكون الالتزام بها من باب الأدبيات, اليونسكو عاجزة من أن تفعل شيئاً جدّياً, فهي بالنهاية منظمة إنسانية هدفها التوثيق و التعريف بالتراث الإنساني و المشاركة بدعمه و تفعيله و إظهاره, و يعتبرها المختصون إطار عمل من أجل المحافظة على صيغة عالمية مشتركة.
ربما على اليونسكو أيضاً أن تحاول أن يكون لها دور فاعل أكثر مما تفعله الآن!؟ و ربما لا تستطيع!
كلنا عاجزون أمام آلة الحرب.
إذا كان المجتمع الدولي الذي يمتلك القوة السياسية و العسكرية لم يفعل شيئا تجاه هذه المحنة البشرية في سوريا فهل تستطيع منظمة مثل اليونسكو فعلها!
نحن أمام إرهاب لا يميز بين قديم و حديث, و لا يحترم أية اتفاقية دولية من شأنها أن تحمي المواقع المهمة في حالة الحرب, كاتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، أي عندما تكون كلتا الدولتين موقعتين عليها تلتزمان بعدم المساس بالمواقع التي تحتوي على العلامة المميزة كونها تحت الوصاية الدولية.
واتفاقية اليونسكو لحظر استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية و الاتفاقية المتعلقة بالممتلكات الثقافية المسروقة أو المصدّرة بطرق غير مشروعة .......
اليونسكو و المعاهد العلمية المختصة بحماية المقتنيات الأثرية تبحث الآن عن وسائل تقنية جديدة للتوثيق, سواء توثيق المواقع قبل التعرض للخطر أو توثيق الوضع الراهن في الحرب من أجل حفظ ما يمكن حفظه من المعلومات الرقمية قبل أن تطالها الحرب للاستفادة منها في إعادة الإعمار في حالة السلم, قد يكون هذا كافياً و قد لا يكون!
إلا أن كل ما أعرفه هو أن هذا الاٍرهاب ضرب عرض الحائط كافة المواثيق و الاتفاقيات الدولية السابقة, الإنسانية والثقافية و الدولية و حتى حدود الدّول, و نحن بحاجة الى ابتكار طرق جديدة لإيقافه عند حدّه قبل أن يسحقنا جميعاً.