لماذا هذه الحرب على البارتي وإقليم كوردستان العراق؟....ازاد علي احمد
جملة من المعطيات العيانية تشير إلى نجاح تجربة كوردستان العراق في السنوات العشر الأخيرة، فإذا استعرضنا الخطوط العامة للحياة السياسية والاجتماعية وتوقفنا عند أبرز معالم التجربة، نجد أن الحريات السياسية قد توسعت، وأن العملية الديمقراطية منسجمة مع الواقع الكوردستاني، حيث استوعبت كل الطيف السياسي، خاصة المتمثل منه في برلمان الاقليم، الذي يضم علمانيين وإسلاميين، ليبراليين واشتراكيين، ممثلي الأديان والقوميات غير الرئيسة. التقدم الإجتماعي والإقتصادي قد تنامى، خاصة في مجالي التعليم وتوفير فرص العمل، إضافة إلى تحقيق أكبر نهضة عمرانية حضرية وخدمية غير مسبوقة في كوردستان وجوارها، تجاوزت كثيرا ما إنجز في المناطق الأخرى من العراق... هذا المقال لا يهدف ولا يسع لتقديم الأرقام والمؤشرات، وانما الهدف هو التذكير بالخطوط العامة للتجربة.
بعد عام 2011 وتصدع البنى السلطوية والدولتية في كل من سوريا والعراق، وتحولهما إلى دولتين فاشلتين وإن بدرجات متفاوتة، كان أمام كل متابع وقارئ دقيق للمشهد السياسي، حقيقة واضحة وجلية، تتلخص في أن تجربة سياسية وإدارية ناجحة تنهض من بين حطام وأنقاض دولتين مصطنعتين وفاشلتين. لقد كانت سمات التجربة ومنجزها ملموسا ومعبرا، ما دفع بالهيئات الدولية المختصة إلى الإشادة بها، وصولا إلى مطالبات صريحة للإهتمام بالتجربة، لتشجيعها وتعميمها في المنطقة. صحيح أن ما كان متوقعا لعموم العراق بعد عام 2003 كرهان وكنموذج لم يتحقق، لكن الصحيح أيضا أن قسم رئيس من العراق متمثلا بإقليم كوردستان قد نجح وقدم عمليا تأكيدا على امكانية الخروج على نماذج السلطات الاستبدادية في المنطقة، والتأسيس لدول إتحادية ناجحة.
هذا وفي الوقت الذي كانت فيه بعض القوى السياسية والمنظمات العسكرية في كل من سوريا والعراق تخوض عام 2013 حربا ضروسا ضد السلطات الحكومية وضد بعضها البعض، لدرجة القتل على الهوية المناطقية والسياسية، إلا أن وصلت بها الفظائع للذبح بالسكاكين وأكل لحم الضحايا من الخصوم، وقطع الرؤوس، في مشاهد مصورة إقشعر لها ضمير البشرية المتحضرة. في موازاة هذه المشاهد المرعبة، جرت بسلاسة في اقليم كوردستان انتخابات ديمقراطية تحت إشراف ومراقبة دولية، ودخل البرلمان طيف واسع من ممثلي مختلف الأواسط بما فيه المتشددون الإسلاميون. كما جرت لاحقا مفاوضات شاقة توجت بتشكيل حكومة وحدة وطنية، ائتلافية واسعة.
إزاء هذه المفارقة السياسية في المنطقة، والتي إرتقت إلى مصاف تميز وتفرد إقليم كوردستان في سويتها السياسية والاجتماعية، كان لا بد لمن يعاديها وسبق له أن قام بتشويه حقيقتها أن يتحرك. تقاطعت هذه النية مع تعاظم قوة المنظمات الجهادية المتطرفة من جهة، وضغط بعض الأوساط في حكومة بغداد المركزية من جهة أخرى. أما بعد بروز تنظيم الدولة الاسلامية "داعش" واحتلال الموصل، فقد تهيأت الأجواء لقيام سلطة اقليم كوردستان بملء الفراغ الحاصل جراء انحسار سلطات الحكومة المركزية في بغداد، وتعويض فشلها في حماية مناطق العراق وسكانها، إلى أن تحول إقليم كوردستان العراق إلى ملاذ آمن لمئات الآلاف من نازحي المناطق الساخنة في كل من سوريا والعراق.
أضافت أحداث ما بعد إحتلال الموصل صيف 2014، والتصدي البطولي لهجمات داعش على مناطق الاقليم، وتحقيق الانتصارات العسكرية، المزيد من الرونق والرصانة إلى التجربة الكوردستانية، ترجمت على شكل منجزات سياسية ودبلوماسية وسمعة حسنة في كل أنحاء العالم، حتى استقطبت أربيل الأضواء وتحولت إلى العاصمة الأكثر نشاطا في الشرق الوسط. كل هذه المتغيرات دفعت بالقوى المعادية للكورد والعواصم التي تقتسم كوردستان وتتحكم بمصير شعوبها على تشجيع "داعش" بطرق مختلفة للهجوم على كوردستان، ليتساوى الجميع في الفشل والتخبط، لخلط الأوراق وتفويت الفرصة الموضوعية على ارتقاء سلطة الإقليم نحو مزيد من الاستقلالية والنجاحات.
إن الهجوم العسكري على إقليم كوردستان من قبل المجاميع الارهابية الداعشية وبقايا الشوفينية البعثية شكل بداية لهجوم منظم ومنهجي مركب، سياسي وإقتصادي، انطلق من زوايا مختلفة لتستهدف صميم تجربة إقليم كوردستان وكيانها اليافع. هذا ومازالت فصول هذه الهجمة ومراحلها تتلاحق بتواتر مدروس، وتتمظهر أحيانا على شكل خلافات داخلية ناعمة بين القوى الكوردستانية، وتصريحات غبية وفاضحة من قبل شخصيات هامشية في قيادة بعض الأحزاب الكوردستانية أحيانا أخرى. يخطئ من يعتقد أن هذا الهجوم يستهدف البارتي فقط، صحيح أن لقيادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني أخطاءها، لكن الصحيح أيضا انه كحزب عريق قد حقق منجزات كبيرة، ومن البديهي بصفته الحزب الأكبر والأقدم والعمود الفقري لهيكلية تجربة الإقليم السياسية أن يتلقى الجزء الأعظم من هذه الهجمة، كما من السذاجة الاعتقاد أن تصريحات رئيس الاقليم السيد مسعود البارزاني بصدد إمكانية الاستفتاء على الاستقلال إستجرت هذه الهجمة، فالهجمة كانت قد بدأت في جميع الحالات، وهي ستستمر حتى لو تراجعت القوى السياسية الكوردستانية عن الحد الأدنى من برامجها، وإنحدرت نحو مستوى أدنى من ما هو متحقق عمليا في الاقليم. وفي نفس السياق سيخطئ من يفترض أن البارتي فقط سيخسر وسيتراجع دوره أمام شراسة هذه الهجمة المركبة المعدة باتقان، لأن أي زعزعة لاستقرار منظومتي الحكم والأمن في اقليم كوردستان ستنعكس على الجميع، وليس في الأفق من احتمال لأي مكسب سياسي حزبي لصالح أي طرف كوردستاني، فقط سيكون التنافس السلبي والتناحر معادلا لخسارة التجربة برمتها، وبالتالي خسارة شاملة لكل ما أنجزه الكوردستانيون خلال عقود، وتنكر صرح لتضحيات ومعاناة الملايين من أبنائهم.
لكي تفشل هذه الحملة تماما مثل سابقاتها، ولكي تظل مجرد فصل أخير في الحرب الممنهجة على إقليم كوردستان وشعبه وكل قواه السياسية، أقترح أن يتم إتخاذ ثلاث خطوات واجراءات سريعة، وهي ليست جديدة على أجندات القوى الكوردستانية، لكنها تتطلب التأكيد والتنفيذ:
1- التوافق على دستور دائم لإقليم كوردستان العراق، والإلتزام التام به وبسائر القوانين الناظمة لتجربته، وصولا الى ترسيخ ثقافة إحترام القوانين والدساتير المدنية، وتفعيل دور البرلمان.
2- توحيد سائر تشكيلات القوات المسلحة ضمن منظومة جيش عصري متطور يتبع وزارة البيشمركة، والاستمرار في تدريبها من قبل مؤسسات مختصة عالمية، ويفضل أن يشرف مرحليا على قيادة الوزارة لجنة سياسية مشتركة.
3- تأسيس هيئة أو غرفة عمليات من القادة السياسيين والتكنوقراط المختصين بتطوير إقتصاد الإقليم، وذلك لتأمين الديمومة والاستقلالية للاقتصاد الكوردستاني وحماية المستهلك من تقلبات الأسعار وتخفيف حدة الأزمات.