• Sunday, 22 December 2024
logo

وإن رحلوا....سلالة بارزان ملوك الحرب وأمراء السلام.................شفان ابراهيم

وإن رحلوا....سلالة بارزان ملوك الحرب وأمراء السلام.................شفان ابراهيم
بارزان التسامح الديني.. في خضم الانتفاضات والعمليات القتالية التي عصفت بمنطقة بارزان ظلَّ الشيخ عبد السلام بارزاني حريصاً على الاحتفاظ بدعوته إلى التسامح والأخوة والمساواة. وابرز الأمثلة كانت محاولته إقناع المستشرق اللاهوتي الاسكتلندي ويكرام بفتح مدارس تعليمية في المنطقة الكوردية لتعليم الأطفال الكورد. والواقع أن ويكرام الذي عاين حال المسيحيين في منطقة بارزان وتحدث إلى كثيرين منهم, أعتبر أن الشيخ عبد السلام هو موضع ثقة في تطبيق العدالة وتامين المساواة بين الكوردي, المسلم والمسيحي على السواء. وهذا ما جعل المسيحيين ينعمون بالأمن والحصانة من الإضهاد والنهب والسلب في عهده, مضيفاً أن عدالته الدينية هي السبب في أن العثمانيين وموظفيهم يكرهونه. بل أن ويكرام لم يتردد عن إطلاق أسم ( شيخ النصارى) على الشيخ عبد السلام تجسيداً لدوره في إنصاف المسيحيين ورعاية أوضاعهم وحماية أمنهم. إلى ذلك يذكر الرئيس مسعود البارزاني أن الشيخ عبد السلام التجأ بعد هجوم القوات العثمانية على بارزان في عام 1907 إلى قرية ( تياري) المسيحية في جنوب شرق تركيا واستقر في منزل مارشمعون زعيم الأثوريين إلى حين عودته إلى منطقته في العام التالي. وما زاد من أهمية التسامح الديني في دعواته, أن الفترة التي نشط فيها شهدت أجتماع غيوم إبادة الأرمن في أفق الدولة العثمانية. وتكشف الوقائع التاريخية أن عشائر كوردية كثيرة, في مقدمتها العشيرة البارزانية, دافعن بشدة عن الأرمن في وجه الحملات العثمانية. وكانت لنظرة الشيخ عبدالسلام التسامحية دور كبير في توسيع رقعة التسامح الديني في المجتمع الكوردي, نتج عنه في ما بعد, ما يشبه انعدام دعوات التشدد والتطرف الديني بين الكورد. وهذا ما يمكن ملاحظته إلى الوقت الراهن. علماً أن الشيخ احمد البارزاني شقيق الشيخ عبد السلام أرسل في 1920-1921 قوة مسلحة من المقاتلين البارزانيين إلى تركيا لنجدة الأرمن الذين كانوا يتعرضون إلى حرب إبادة جماعية شاملة, وبالفعل استطاعت القوة البارزانية إنقاذ عوائل أرمنية عدة من براثن المذبحة الدموية بينها عائلة اندرانيك باشا أحد زعماء الأرمن.
مهندس الثورات
يتفق الكورد على أن ادريس البارزاني, النجل الثالث للزعيم الراحل مصطفى بارزاني, يمثل في تاريخ الحركة القومية الحديثة محطة بارزة على صعيد الزعامة السياسية والعسكرية, ويشير الباحثون والمتابعون الكورد عند حديثهم عن المقطع الزمني الذي نشط فيه ادريس, وهو الحقبة الممتدة من منصف العقد الستيني للقرن العشرين إلى وفاته مطلع عام1987, إلى أنه كان بمثابة ضلع أساسي في مثلث الزعامة الكوردية في تلك الحقبة. وأمتاز بشخصية هادئة وتواضعه الجمّ وسلوكياته السياسية الراقية. أن سلوكيته السياسية العصرية التي طبعت شخصية إدريس بما فيها منهجه في العمل السياسي, لم تتعارض مع هويته الجبلية وكونه سليل إحدى العائلات الدينية الكبيرة في كوردستان. بل استطاع هذا المنحدر من انتفاضات الريف الجبلي والمترعرع في أحضان المدن أن يجمع في تكوينه السياسي والثقافي بين قطبي العصرنة والريفية. على هذا يلاحظ أن تلك السلوكية تعارضت إلى حد لافت, مع التوترية الإيديولوجية الحادة التي طبعت, ولا تزال تطبع تجارب كثير من السياسيين في الشرق الأوسط على مختلف مشاربهم الفكرية وانتماءاتهم القومية والسياسية, واللافت أيضا أنه بقي بعيداً عن توترية السياسة على رغم أن عائلته وعشيرته, بل وتجربته الشخصية منذ الطفولة, قليلاً ما استراحت من حياة التوتر والمنافي والسجون والانتفاضات المسلحة من ناحية, وصميم السياسة من ناحية أخرى. والواقع أن تعقيدات هذه القضية لم تنبع من فداحة التضحيات والخراب والدماء التي سالت من الكورد فحسب, بل نبعت, أيضا, من الصعوبة الجيوسياسية البالغة التي أحاطت بالوطن والقومية الكوردية. في هذا الزمن العراقي والإقليمي والدولي العصيب, المتأزم, الدموي, الحالك, استطاع أن يمنح الحركة القومية الكوردية دفقاً كبيراً من القوة والإبداع والازدهار. وقد تجلت هذه القوة, في بعض صورها, في نمو انتفاضة أيلول 1961 من نحو ثلاثة آلاف بشمركة في 1965 إلى نحو خمسين إلى مئة ألف مقاتل في 1974 ومن حركة منسية في مطلع الستينات إلى حركة شغلت موقعاً لافتاً في المشهد السياسي العالمي والإقليمي في النصف الأول من السبعينات. وكانت الحركة الكوردية في العراق بهذا العدد الكبير من مقاتليها وكوادرها بمثابة أوسع حركة تحررية مسلحة تشهدها منطقة الشرق الأوسط طوال مئة عام. ولعل قيادته لمعركة هندرين 1966, ودوره الحيوي في المفاوضات السياسية التي أدت الى توقيع اتفاقية 11 آذار 1970 مع الحكومة العراقية, أمثلة ساطعة على قدراته القيادية. ومازال الكورد يتذكرون إقدامه الشجاع على المبادرة بعقل سياسي راجح, وفي غياب والده, وبمساعدة مباشرة من شقيقه الرئيس مسعود, إلى تنظيم وتوجيه وإطلاق انتفاضة مسلحة جديدة في 1975-1976. ويؤكد جميع من عمل معه في تلك الفترة أن دوره في الانتفاضة الجديدة التي تعرف بين الكورد بثورة كولان كان أساسيا, وأن هذا الدور لم يقتصر على قيادة المقاتلين بل شمل توفير الأرضية السياسية والتنظيمية للانتفاضة في ظروف صعبة ومعقدة لا أقلها التعاون الإيراني-العراقي لمنع قيام انتفاضة كوردية جديدة.

رجل المهمات الصعبة
يصح القول عن الكورد انهم حاولوا التعامل في شكل حيوي مع معطيات الحرب بقدر تعلقها بقضيتهم القومية, وكأن أملهم في تلك السنوات أن تعيد لهم الحرب الثانية ما فقدوه من حق سياسي في إقامة دولتهم المستقلة بعد الحرب الأولى.
إجمالاً, يمكن تلمس المظاهر الرئيسية لتعامل الكورد مع الحرب ونتائجها في عدد من الميادين:
الأول: أتساع نشاط المنظمات السياسية بين الكورد, وتطورها عن مثيلاتها قبل الحرب, والثاني: صدور مجموعة من المجلات والمطبوعات الثقافية, منها مجلة (نشتيمان) في مهاباد, و(كلاويز) في بغداد, والثالث: اندلاع انتفاضات مسلحة في عدد من البقاع الكوردية في العراق وتركيا وإيران. وكانت انتفاضة 1943-1945 في كوردستان العراق أرقى تلك الانتفاضات من النواحي السياسية والتنظيمية والعسكرية. والرابع: تأسيس جمهورية كوردستان في مهاباد والتفاف كورد العراق حولها في1946. واللافت أن مصطفى البارزاني كان في تلك الفترة بمثابة الركيزة الرئيسية في إدارة أكثر تلك التطورات والأحداث السياسية والعسكرية, خصوصاً في ثلاث من أهم محطاتها: انتفاضة 1943-1945, وجمهورية كوردستان (مهاباد) وتأسيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني.
أستمد البارزاني انطلاقته السياسية الأولى, من حاضنته العشيرية التي امتزجت فيها الصوفية النقشبندية بالدعوات السياسية والقومية. لكن الذي يُحسب لصالح البارزاني أنه أدخل تطويراً جوهرياً على بنية الحركة القومية الكوردية وأدواتها وآلياتها, مما وضعها على أعتاب مرحلة مختلفة كلياً عن مراحلها التي سبقت الحرب الثانية. ومع اختلاف الأحداث وموازين القوى السياسية والاجتماعية والثقافية, كان للبارزاني دور رائد وحيوي في ضبط إيقاع تلك التغيرات وتجسيدها على أرض الواقع عن طريق رؤيته السياسية الثاقبة. إن انخراط البارزاني في حياة الثورة في طفولته سبق تبلور وعيه السياسي والقومي, و حاضنة الأهل والأقارب بكل مآسيها وعذاباتها, قوّت من عريكته العسكرية وشدّت من وعيه السياسي وإدراكه المبكر لآلام شعبه.
امتازت مرحلة مطلع الأربعينيات من القرن الماضي بصعوبتها وحساسيتها البالغة بالنسبة إلى الوضع القومي الكوردي. فإضافة إلى الحرب الثانية وعواملها وانعكاساتها على كوردستان, كانت الحركة القومية الكوردية نفسها تعيش حالاً سيئة من التشرذم والتشتت السياسي والثقافي على رغم أتساعها الأفقي وبروز منظمات وجمعيات سياسية وثقافية, وفي السياق ذاته اتسمت الحركة القومية الكوردية في فترة بين الحربين بتعقيدات كبيرة. فالبريطانيون والأتراك والعراقيون واجهوا الكورد بالحديد والنار, وتجاهلت عصبة الأمم تطلعات الكورد نحو إقامة كيان قومي.
بدأ البارزاني الخالد انتفاضته في بارزان التي استمرت لأكثر من عامين, سيطر خلالها على مناطق شاسعة, دفعت بالسفير البريطاني في بغداد كيهان كورنواليس للتوجه إلى كوردستان ولقاء البارزاني وناشده الاتفاق مع الحكومة العراقية, لكن البارزاني رفض التخلي عن الثورة لقاء الإفراج عن البارزانيين المنفيين, بل أصر على المطاليب السياسية والقومية للكورد, وإعادة توحيد مدن وقصبات كوردستان (كركوك, اربيل, السليمانية, والأقضية الكوردية في لوائي الموصل وديإلى ) في ولاية إدارية واحدة.
والواقع أن مخاوف بريطانيا من الأنفتاضة تفاقمت بشكل كبير بعد أن هدد بارزاني بفرض سيطرته على طريق هاملتون الاستراتيجي. وكانت بريطانيا تعتقد أن تطوراً كهذا لا يعني سوى الحرب على المصالح البريطانية.
أن تأثيرات انتفاضة بارزان كبيرة على مسار الحركة القومية الكوردية برمتها. في هذا المنحى يمكن القول إنها أخرجت الحركة الكوردية من نطاقها العشائري الضيق وأطلقتها في فضاء قومي رحب يضم فئات وشرائح اجتماعية ودينية متنوعة. وتجلى ذلك في التفاف ضباط ومتنورين ومعلمين وطلبة حولها بعد أن كانت ميادينها متحركة في السابق على الفلاحين وأتباع العشائر. كما أغنت الانتفاضة محتوى الحركة الكوردية وعمقت من مفاهيمها الديمقراطية والسياسية وأعطتها سمة عصرية واضحة. ويذكر البارزاني نفسه في كلمة ألقاها في مؤتمر ممثلي كورد إيران والعراق في باكو في التاسع من كانون الثاني 1948, أن هدف انتفاضته كان إنشاء إدارة حرة وديمقراطية. من جهة أخرى استطاعت الانتفاضة أن تنقل الحركة الكوردية من إطار عسكري بحت إلى نشاطات سياسية تنظيمية مترابطة ومتداخلة. ولا أدل على هذا من الإشارة إلى تأسيس لجنة بإسم لجنة الحرية في العام الأول للانتفاضة لقيادتها, وكان قوامها الضباط الكورد الذين التفوا حول البارزاني, وأخرجت الانتفاضة الواقع الكوردي من إطارها المحلي الداخلي العراقي الى إطار إقليمي ودولي.
Top