العراقيون يعيشون في جلباب قادتهم!
ولا تعتورها أعراض مرض الزهايمر، تظل تتذكر سيرة القادة التاريخيين والزعماء السياسيين، وخاصة الانقلابيين الذين تعاقبوا على حكم العراق، وتحتفظ ببطولاتهم «التاريخية» في مجال تدمير المجتمع العراقي وتهديم ثقافته وحضارته وبنيته التحتية، فما زال العراقيون يتذكرون الزعيم «عبدالكريم قاسم» ويعددون مناقبه وفضائله وينظرون إليه كمحرر للبلاد لا كقائد انقلابي عسكري غير شرعي (1958)، تحدى القوانين العسكرية والمدنية وخرق الدستور ودشن لعهد يسود فيه القمع وعدم الاستقرار.
وعندما أطاح به البعثيون في انقلاب مماثل عام 1963 وأعدموه، اعتبره العراقيون «شهيدا»، وعاملوه كرمز وطني، لا كقاتل نكل بالعائلة المالكة، وأبادها بصورة وحشية قل نظيرها، وكذلك الأمر بالنسبة لـ«صدام حسين» الذي رفعوه إلى مصاف القادة التاريخيين الإصلاحيين العظام، رغم جرائمه الكبيرة ومقابره الجماعية وحروبه المدمرة، وقصفه للمدن الكردية بالقنابل الكيمياوية، فإنه ما زال - عند العديد من العراقيين - البطل القومي، ومنقذ الشعوب العربية من الاستعمار والصهيونية، وحزبه «حزب البعث» ما زال يشغل حيزا في الساحة السياسية، ويمارس دوره في صفوف المعارضة ضد الدولة الجديدة، على أمل العودة ثانية إلى الحكم، وقد يعودون إلى السلطة ثانية، ولكن بشيء من التحوير والتغيير وفي إطار حزبي آخر ولكن بنفس السياسة والشعارات العروبية السابقة، حاول «نوري المالكي» طوال سنوات حكمه الثمانية أن يوائم بين مفهومين متناقضين في الظاهر، ولكنهما متكاملان في الواقع؛ مفهوم يمثل عقيدته الطائفية التي تمده بأسباب القوة وتكسبه الشرعية من خلال حزبه «حزب الدعوة».
ومفهوم آخر يمثل العقيدة العروبية البعثية كآلية وأداة سياسية لتحقيق أهدافه السياسية والطائفية، وقد مارس هذه الاستراتيجية فعلا حيث أظهر وجها طائفيا بغيضا للمكون السني، ودخل معه في صراع مرير وحرب طائفية ذهب فيها ضحايا لا تعد ولا تحصى، وبينما هو يسلط مليشياته الطائفية على المناطق السنية، ويعمل فيها القتل والذبح، أظهر وجهه الآخر الأكثر عنصرية وشوفينية للأكراد من خلال تأجيج الشعور القومي والعنصري ضدهم.
وخلافا لكل توقعات السياسيين والخبراء الاستراتيجيين خاض حربين ضروسين في جبهتين في آن واحد؛ الجبهة السنية والجبهة الكردية، يحارب السنة بالأسلحة الطائفية من خلال تشكيله لمليشيات شيعية مسلحة ودعمها بالأموال والعتاد، وكذلك يحارب الأكراد بالأسلحة القومية، وما زال يؤجج العرب العراقيين عليهم تمهيدا لمواجهة دموية محتملة.
ومن أجل إضعاف الطرف الكردي استعان بالبعثيين وأعاد الكثير منهم إلى وظائفهم وأعطاهم وزارات ومراكز مهمة جدا، وزرعهم في جميع مفاصل الدولة، ووضع القيادي البعثي السابق الفريق الركن «عبدالأمير الزيدي» الذي يتهمه الكرد بضلوعه في ارتكاب جرائم إبادة جماعية ضدهم من خلال مشاركته في عمليات الأنفال العسكرية عام 1988، حيث راح ضحيتها أكثر من 180 ألفا منهم قائد لقيادة عمليات دجلة في مدينة كركوك المتنازع عليها، بموازاة القوات الكردية المرابطة هناك..
مشكلة العراقيين أنهم لا ينسون الماضي أبدا، يظلون يتمسكون بأهدابه ويعيشون مع أحداثه بلحظاتها الدقيقة، والماضي لا يعني لهم أحداثا جرت وانتهت، بل هو الحاضر والمستقبل أيضا، فهم لا يتذكرون مقتل «الحسين» كحدث تاريخي فحسب، بل يعتبرونه حاضرا يتفاعلون معه بشكل يومي، وكذلك الأمر بالنسبة لـ«صدام حسين» صحيح أنه مات ومضى لحال سبيله، ولكن العراقيين يظلون يتقمصون دوره بكل سلبياته إلى ما لا نهاية، وتظل سياسته تظهر على الساحة العراقية بين فترة وأخرى وبأشكال وأفكار مختلفة.. فإذا كان «الألمان» قد أسدلوا الستار على «هتلر» وحزبه النازي ولم يعودوا لنهجه السياسي حتى اليوم، وكذلك فعل الإيطاليون مع»موسوليني»وحزبه الفاشي، فإن العراقيين لم ولن يخرجوا من جلباب قادتهم وزعمائهم ويظلون يؤدون أدوارهم على مر الزمن.