الإرادة الطيبة تفتح طريق الحلول بين بغداد وأربيل...........عدنان حسين
لم أتردد أبداً في التعبير عن موقف إيجابي بالرضا عن الاتفاق وتأييده، وعن مشاعر السعادة حيال ما انتهت اليه مهمة الوفد الحكومي للإقليم الذي زار بغداد لهذه الغاية بإنبعاث الدخان الأبيض من مقر اجتماعاته مع وفد الحكومة الإتحادية. لا أظن ان عراقياً واحداً، أياً كانت قوميته أو مذهبه، لديه أضعف شعور بالوطنية وأدنى قلق حيال مصير بلاده وشعبه لم يتنفس الصعداء وهو يتلقى الأخبار الطيبة عن عقد الإتفاق الذي انتظرناه طويلاً وامتدّ أمده أكثر من اللزوم بسبب العناد والتزمّت اللذين تشبث بهما رئيس الحكومتين السابقتين، نوري المالكي، وهو ما أدى في نهاية المطاف ليس فقط الى توتر العلاقات بين بغداد وأربيل وانما أيضاً الى هزيمة مذلّة للجيش الإتحادي وسائر القوات الأمنية أمام تنظيم داعش الإرهابي الذي فرض سيطرته على ثلث مساحة البلاد، وهو ما يرجع الى سوء إدارة البلاد.
في جوابي على سؤال المراسل قلت انه بالاضافة الى حل مشكلتي النفط ورواتب البيشمه ركة ، هناك أهمية معنوية كبيرة للاتفاق تتمثل في تأكيد فكرة انه ما من مشكلة ليس لها حل. وهذه الفكرة عبّر عنها صراحة رئيس الحكومة الاتحادي الحالي حيدرالعبادي في تصريح صحفي له مؤخراً .
وأهمية هذه الفكرة تتجلى في انها تعكس الإرادة الطيبة لحل المشاكل، ومن الواضح ان الارادة الطيبة للسيد العبادي هي التي فتحت الطريق أمام وفد الإقليم للمجيء الى بغداد وللعودة الى أربيل باتفاق مرضٍ للطرفين، وعدم توفّر هذه الارادة هو الذي عرقل
التوصل الى إتفاق كهذا طيلة السنوات الأربع الماضية. والواقع ان هذا الإتفاق كان يُمكن التوصل إليه في أي يوم من أيام السنوات الأربع المشار اليها لو كانت قد توفرت الإرادة الطيبة لدى حكومة بغداد.
الإرادة الطيبة لا تولد في القلوب أو الضمائر من تلقاء نفسها.. انها في الغالب تكون وليدة التجربة، وتجربتنا العراقية غنية للغاية، وكان من المفروض أن يكون انتاجها من النوايا الطيبة غزيراً للغاية. على مدى ثلاثة أرباع القرن واجهت الدولة العراقية الحديثة مشكلة العلاقة مع القومية الثانية في البلاد، وعلى الدوام كانت السياسات المتّبعة لا تعكس الإرادة الطيبة لحل هذه المشكلة سلمياً وبما يتوافق مع عصر الأمم المتحدة الذي بدأ غداة اندحار النازية والفاشية في أوروبا وعلى صعيد العالم. ولم تكن النازية والفاشية سوى تجسيد للنزعة القومية المتطرفة (الشوفينية) التي تسعى الى إلغاء وجود الآخر.
معظم الحكومات العراقية انتهجت سياسة شوفينية تجاه الكرد وسائر القوميات غير العربية، وسعت لإخضاع حركة الحقوق الكردية ثم الحركة التحررية الكردية بالركون الى القوة المسلحة، وفي الغالب لم تلجأ تلك الحكومات الى الحوار الا في حال الضعف ومن أجل أن تستعيد الأنفاس للتمكّن من إستعمال القوة من جديد.
تاريخ بلادنا كله شاهد على عقم تلك السياسات، بل بالإمكان الإستنتاج بسهولة تامة ان كل الخراب الذي يشهده العراق الآن، ترجع أسسه الى السياسات الخاطئة، العدوانية، التي انتهجت ضد الكرد. الزعيم عبد الكريم قاسم لم يأخذ العبرة من فشل الحكومات الملكية في قهر الحركة التحررية الكردية، فاستعمل القوة ودفع هو الثمن، بل العراق كله وحركته الوطنية دفعا ثمناً باهظاً للغاية عندما دشّن انقلاب 8 شباط 1963 البعثي التاريخ الدموي للبلاد. وصدام حسين لم يأخذ العبرة من التجارب السابقة ولا من تجربة نظامه الذي فشل على مدى سنوات في القضاء على الحركة التحررية الكردية بالقوة الغاشمة حتى بعد أن وقّع اتفاق الجزائر مع شاه ايران (1975) الذي تنازل له عن نصف شط العرب ومناطق حدودية أخرى في مقابل إغلاق الحدود ومحاصرة الثورة الكردية، فكان أن جرّ البلاد الى كوارث وويلات متلاحقة: حرب الإبادة الداخلية ضد الكرد والقوى الوطنية، وحرب الثماني سنوات ضد إيران (1980 - 1988)، ثم غزو الكويت وحرب 1991، وحرب 2003 المتواصة تفاعلاتها الداخلية المدمرة حتى اليوم.
في عهد الحكومة السابقة تصرّف رئيسها السيد نوري المالكي على نحو مماثل لما كان يحصل في الماضي، كما لو ان العراق لم يكن قد خاض كل تلك التجارب الكارثية، ولا كأن عهداً جديداً قد حلّ منذ 2003 أو في الأقل منذ 2005 عندما أقرّت أغلبية الشعب العراقي دستوراً كرّس النظام الديمقراطي البرلماني والشكل الفيدرالي للدولة، ما يعني انتهاء تلك العهود التي تقوم فيها السلطة على أساس الفرض والإملاء من جانب فرد واحد أو حزب واحد، سواء على الأفراد أو على الجماعات، وحلول عهد جديد تتساوى فيه الحقوق للجميع، ويجري فيه حل المشاكل بالحوار والتفاهم عبر الهيئات التمثيلية المنتخبة وليس بالقوة، ومعنى هذا لزوم توفّر الإرادة الطيبة لدى من يسعى لإدارة الدولة، لأن نقيض هذه الإرادة يعني الخروج على الدستور وقواعد النظام الديمقراطي الفيدرالي، وهذا هو بالضبط ما حصل في عهد الحكومة السابقة، ليس فقط على صعيد العلاقة مع حكومة إقليم كردستان وإنما أيضاً على صعيد ادارة الدولة في كل المجالات، وقد تبيّن هذا للعيان على نحو واضح بعد أن تبدّلت الحكومة وتشكّلت حكومة جديدة تبدو الآن مشغولة كل الوقت في إصلاح ما أفسدته الحكومة الأخيرة للمالكي.
مهم جداً أن تتطبع العلاقات بين بغداد وأربيل، فما من مصلحة للشعب العراقي بقومياته المختلفة في أن تكون العلاقات متوترة، خاصة وان البلاد تواجه الآن خطراً مصيرياً جسيماً، هو خطر (داعش) الذي يهدد كيان الدولة العراقية برمته. كما ان إنكشاف واقع ان حكومة المالكي الأخيرة لم تخلّف للحكومة الجديدة سوى خزينة خاوية، يملي توثيق العلاقات بين بغداد وأربيل لضمان الإستثمار الأفضل لثروة البلاد، النفط، التي تشكل 95 بالمئة من مصادر الحياة للشعب العراقي والدولة العراقية.
إتفاق بغداد - أربيل الأخير لم يضع حلولاً لكل المشاكل العالقة.. هذا صحيح، لكنه أساس جيد للإنطلاق نحو تلك الحلول التي يُمكن إنجازها، ولو بعد حين، إذا ما احتفظت الإرادة الطيبة بزخمها القوي