الشاعر سعدي يوسف والوزير الكوردي...................فوزي الاتروشي - وكيل وزارة الثقافة
والشاعر سعدي يوسف في سماء المشهد الادبي العراقي صرح تأسيسي للشعر العراقي الحديث منذ ستينات القرن الماضي، وقد عبر حدود المحلية الى العالمية عبر الكم الكبير المترجم من شعره الى مختلف اللغات، هذا الشعر الذي تراكم عبر عشرات الدواوين. اقول ذلك لأنني استغربت حين ابدى الشاعر رفضه استيزار كوردي في وزارة الثقافة العراقية هو الكاتب والصحفي والمثقف فرياد راوندوزي.
لقد عانى سعدي يوسف من القمع والاضطهاد والسجن ورحل الى ديار الغربة عنوة لا حبا ليمارس حريته بعد أن اقفل النظام الدكتاتوري السابق كل نوافذ التعبير بحق المبدعين.
وبقي الشاعر سعدي يوسف رغم اختلافه معنا واختلافنا على خلفية المواقف السياسية بعد التغيير عام 2003 شاعرا يمثل وطنا ومثقفا نعتز بعطائه الشعري بعيدا عن السياسة والرؤية والمواقف التي لاتجمعنا ولكننا نلتقي على بساط الشعر.
نقول للشاعر الكبير الذي تجول طويلا في الدول والمدن وعاشر ثقافات متنوعة، وهو يعيش الآن في كنف اعرق ديمقراطية في العالم، اليس جميلا ان يكون العراق بكل الوانه وتنويعاته وتقاسيمه الجغرافية والقومية واللغوية ممثلا في الحكومة لتدشين ثقافة العراق الرافديني بلغاته الاربع العربية والكوردية والتركمانية والسريانية؟
فالأحادية الصماء افقار للهوية، في حين ان التنوع والتعددية اثراء واغناء وتطور مستمر نحو الافضل.
نحن في العراق لا خيار امامنا الا التخلي عن ثقافة الزي الموحد التي عانينا منها جميعا ومعنا الشاعر سعدي يوسف، فالثقافة المكتوبة بلغة واحدة واتجاه واحد ومحتوى واحد وتنتمي لمكون واحد وان كان المكون الاكبر تبقى فقيرة منطوية على ذاتها ومنكفئة غير تلاقحية وحوارية مع العالم المتغير ان لم تصطبغ بكل الوانها الطبيعية الاصلية النابتة من تكوين المجتمع.
فما اجمل وطننا العراقي برئيس كوردي ورئيس وزراء عربي ووزراء عرب وكورد وتركمان وسريان وايزيديين مثل شدة الورد الزاهية الالوان.
ان السيد فرياد راوندوزي من الوسط الثقافي وهو مثل كل الفريق الكوردي العامل في بغداد ينطلق من الوطنية العراقية وليس من الهوية الحزبية او القومية الضيقة. وفي تاريخ الثقافة العربية في العراق وخارجها هناك اعلام بارزون جدا من الكورد والتركمان والسريان الذين خدموا العراق واللغة العربية والثقافة العربية بصورة تبعث على الاندهاش، ومنهم الشاعر الكوردي الزهاوي واللغوي التركماني مصطفى جواد والسرياني انستانس الكرملي والوزير ساسون حسقيل اشهر وزير مالية وصالح الكويتي وداود الكويتي الاخوين اليهوديين العراقيين اللذين قدما للفن والتراث الغنائي العراقي خدمات جليلة وقد صدر عنهما مؤخرا كتاب "صالح الكويتي.. نغم الزمن الجميل"). ولست هنا في وارد قوائم الاسماء الاعلام لأنها ستطول حتما، ولكنني اؤكد ان الشاعر سعدي يوسف تسرع في اصدار الحكم وجانب منطق العصر حين حصر الثقافة العراقية في بعدها العربي فقط، فالمضي في هذا المنطق اللامتوازن واللاعصري يقودنا حتما الى الشمولية مجددا، تلك الآفة التي عانينا منها على مدى (35) عاما من تسلط الدكتاتورية التي لم تكن ترى الثقافة الا بلغة قومية واحدة وبمنظور حزبي واحد ومن اجل تقديس قامة الدكتاتور الواحد حتى انطوى العراق على ذاته مقزّما على الخارطة السياسية والثقافية للعالم.
قبل اعوام عقدنا مهرجانا للثقافة العراقية في مدينة (برلين) وفيها حضر الشاعر سعدي يوسف وقلنا له انه حر وبشكل مطلق ان يقول مايشاء ويقرأ مايشاء دون اية اشتراطات، رغم انه كان ومازال يتهم كل احزاب العملية السياسية بالعمالة. وكانت رسالتنا اننا نختلف في السياسة ونلتقي تحت ظلال الابداع.
كنت صغيرا اقرأ للشاعر سعدي يوسف (نهايات الشمال الافريقي) و(الاخضر بن يوسف ومن شاغله) وغيرها من القصائد التي اثمرت في قلوبنا وعواطفنا شجيرات مثمرة، فهل يمكن لهذا الشاعر ان يتخندق الان قوميا في حين المثقف الكبير ولاسيما الشاعر الكبير لابد ان يكون انسانيا بطبعه. ان الشاعر هنا دخل قوقعة القومية الضيقة التي لاتنسجم مع قيم الشعر التي تمثل الحق والخير والجمال.
نقول لشاعرنا ان وزارة الثقافة العراقية بخير بوزيرها الكوردي فالاصل هو الانتماء للعراق، ومرحبا وعلى الرحب والسعة بالشاعر سعدي يوسف في وزارة الثقافة. ونؤكد ان وجود وزير كوردي للثقافة ليست ضربة امريكية وانما قرار عراقي مستقل يبعث على التفاؤل بدولة ديمقراطية مدنية بعد كل كوارث وحروب الدولة الشمولية والثقافة الشمولية التي لم تنتج سوى المزيد من العنف.
اما ان الوزير الجديد غير معروف للشاعر سعدي يوسف فلأن الاخير هو البعيد عن الوطن منذ عقود ويكتب عن بعد، في حين وظيفة كبار المثقفين ان يكونوا في حضن الوطن ويتلمسوا نبضه.
واخيرا فالعروبة بخير في العراق ولكن ببعدها الانساني الحواري المتناغم مع التنويعات الاثنية الاخرى على قدم المساواة. أما العروبة الاخرى المنقطعة عن هواء العصر فلا حياة لها في العالم الراهن، الم يقل الشاعر المبدع محمود درويش في عام 1965 في قصيدة (كوردستان):
لن تبصري ياعروبة ...
إن كنت من ثقب المدافع تنظرين