كرد سوريا بين مطرقة أنقرة وسندان طهران
الكرد في سوريا و نظراً لاعتمادهم اسلوب النضال السياسي السلمي و لم يلجأوا إلى حمل السلاح فإنهم لم يحتاجوا يوماً لأن يكونوا جزءً من لعبة إقليمية أو دولية بل اكتفت بعض أطراف الحركة الكردية في سوريا بكونها امتدادات مباشرة أو غير مباشرة للأحزاب الكردستانية في حين اختارت بعضها الآخر أن تمثل بذاتها توجهاً أو بعداً مختلفاً مع الحفاظ على علاقات في إطار الاحترام المتبادل مع الأطراف الكردستانية المؤثرة التي كانت دوماً جزءً من الحسابات الإقليمية و صفقاتها سواء في الماضي السحيق أو الراهن المستمر كونها اعتمدت مكرهاً اسلوب الكفاح المسلح – لانعدام أفق الحل السياسي - الذي أنتج انغلاق الطرق باتجاه عواصمها و فتحها بالاتجاهات المحيطة لتلقي الدعم المطلوب الضامن لتدفق السلاح اللازم لاستمرار مقاومتها من جهة، و لبعدها عن التأثيرات الدولية المباشرة نتيجة الاصطفافات الناتجة عن الثنائية القطبية و الحرب الباردة من جهة ثانية مما جعلها تنفذ أجندات تلك الدول المحيطة و الحاضنة لنشاطاتها. الذاكرة الكردية مليئة بمثل تلك الحالات في كل أرجاء كردستان التي اعتمدت الكفاح المسلح و عاشرت ظروف القتال و الحرب تجلى ذلك بشكل أكثر وضوحاً في العراق ثم تركيا حيث بروز الصراع و احتدامه أكثر من غيرها من البلدان تحولت معها العلاقات الكردية بين كل من طهران و بغداد، دمشق و أنقرة خلقت صراعات كردية – كردية، و اقتتالاً دموياً لفترة ليست بقليلة حتى أنتجت في نهايتها إدارة مشتركة متناصفة للإقليم الكردستاني العراقي بين الحزبين الرئيسيين المتناحرين ( PDK ) و ( YNK ) يعطي نفوذاً متوازناً تقريباً لكل من أنقرة و طهران وامتداداتهما الدولية عن طريق ترابط مصالح و علاقات كل طرف من طرفي حكومة الإقليم الأساسيين مع إحدى تلك العواصم كوسيلة حتمية لضمان استقراره. كما ساهمت إضافة لعوامل أخرى في برودة الساحات القتالية و هدوء الأوضاع نسبياً في جانبه الكردستاني في كل من تركيا و إيران.
اليوم تدخل المعادلة السورية برمتها في مثل تلك الحسابات الإقليمية لضعف التأثير الدولي المباشر عليها، و تحول الثورة السورية قسرياً من مظاهرات سلمية إلى قتال مسلح أنتج واقعاً جديداً يستدعي الحصول على الدعم السياسي و العسكري المطلوب لاستمرار صمود الثائرين في وجه الآلة العسكرية للنظام مما استجلب معه مخاطر جمة على الوجود الكردي ببعديه الديمغرافي و السياسي استدعى مزيداً من التلاحم و التوحد، فبعد تشكل المجلس الوطني الكردي كإطار سياسي للعمل الكردي المشترك عن طريق المؤتمر الوطني الكردي بإطلاق إشارة التفعيل من السيد الرئيس مسعود البارزاني ربما لم يكن تشكله ممكناً بدون تلك الإشارة على الرغم من المطالبات الداخلية الملحة المستمرة منذ أمد بعيد و محاولات تأسيس مرجعية كردية لتوحيد القرار و الخطاب الكردي باءت بالفشل نظراً لحالات التعطيل و الإعاقة التي اعترضت طريقها. ظهرت الحاجة إلى صيغة أخرى أكثر شمولاً لوحدة القرار الكردي بعد تشكل مجلس الشعب لغرب كردستان يبدو أنه لم يكن ممكناً مرةً أخرى بدون تدخل الأطراف الكردستانية التي أرادت من الوليد الجديد ضمان ذلك التوازن نفسه لمصالح اللاعبين الأساسيين في المعادلات الإقليمية المسنودة دولياً فتجلى ذلك في صيغة المناصفة الحالية بين المجلسين الكرديين في الهيئة الكردية العليا مع محاولات كل جهة ترجيح الكفة لصالحها مما سبب جموداً و تعطيلاً لعملها، و قلل من قدرتها على كونها المرجعية الكردية الأشمل و الأعلى أو عنواناً عريضاً للوحدة الكردية المرجوة تسبب في صراعات بينية داخلية خفية خاصةً مع ازدياد نفوذ أحد أطرافه ( PYD ) باستقطابه أعداد متزايدة من الشباب الكرد و تسليحهم، و لجوء البعض في المجلس الوطني الكردي إلى ما يشبه " البدائل الأكثر واقعيةً و فاعليةً " في نظرها، و تتويجاً لانحيازها لإحدى المحاور في وجه هيمنة المحور الآخر في ظل ضعف أو غياب – أو تغييب متعمد - لدور و فاعلية " التيار الثالث " القادر على عقلنة الخلاف و إدارة الاختلاف بما يؤدي إلى جمع المتخالفات و تلاقي المتصارعات في هيئة تمثيلية واحدة تحت راية استقلالية القرار الكردي السوري بعيداً عن الأجندات الإقليمية أو سيطرة المحاور لافتقاره لقوتي المال و السلاح – الذي امتلكهما غيره - الكفيلين بتعزيز النفوذ في أجواء الحرب و القتال.
اليوم النفوذ الإقليمي هو المسيطر في سوريا عامةً، و هو المحدد لمسار الأحداث بشكل يطغى على الإرادة الوطنية الحرة لكل الأطراف و هو سبب إضافي مع مجموعة أخرى من الأسباب لتعقيد الأمور و إطالة أمد الصراع، و عدم نضوج رؤية واضحة يضع مساراً محدداً للحل في سوريا مما ينذر باستمرار العنف لأمد غير معلوم حتى تتبلور الملامح الرئيسية للحل أو الحسم في سوريا سيكون لتركيا الدور الأبرز فيه على ما يبدو – بغض النظر عن سيناريوهات الحل – لمنحها فرصة استعادة جزء من دورها الإقليمي الذي فقدته لصالح ازدياد دور إيران بعد سقوط نظامي طالبان و صدام حسين في جوارها من جهة، و لاشتراكها بحدود طويلة مع سوريا تزيد عن تسعمائة كيلومتر من جهة ثانية، و لامتلاكها الكثير من الأوراق في الشأن السوري و كونها الأكثر تأثيراً في جزء كبير من أطراف المعارضة السورية التي سيكون لها دور كبير في مستقبل سوريا من جهة أخرى. كما يبدو أن القضية الكردية في سوريا دخلت لعبة الصفقات الدولية و البازار السياسي لذا يتوقع أن تصبح الساحة الكردية السورية مقبلة على مزيد من " الاستقطاب الحاد " في المراحل المقبلة و ربما صراعات متعددة الأوجه ( بينية و عرقية ) - بما فيها الدموية - على خلفية مناطق النفوذ و التدخلات الإقليمية بشكل مباشر أو عبر بواباتها الكردستانية، و إن درجات و مستويات التناحر كذلك نتائجها النهائية مرهونة إلى حد كبير بمدى نجاح تركيا في تنفيذ برنامجها بشأن القضية الكردية الذي سيغير التوازنات القائمة حيث تسعى حالياً لإيجاد تسويةٍ ما ترضي الطرفين ( الكرد و الأتراك ) في إطار الوحدة الوطنية بالتفاوض مع زعيم حزب العمال الكردستاني السيد عبد الله أوجلان في محاولة منها لتوسيع نفوذها في المحيط الإقليمي، و اكتساب دوراً مميزاً في الوسط الدولي بتحويل القضية الكردية من حالة نابذة معيقة للطموحات التركية إلى حالة جاذبة واقية للتناثر. بينما نرى في الجانب الآخر ( الإيراني ) جنوحاً متزايداً نحو التشدد و الطغيان ينتج مزيداً من الاحتقان و التأزم مما يجعلها عرضة للانفجار الثوري في أية لحظة بـ " ربيع إيراني " يكون أساساً في إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية للمنطقة.