بعد عقد.. 9 أبريل يوم لـ«الفردوس المفقود» في العراق
كانت الدبابة الضخمة جزءا من رتل من الدبابات المقبلات من أقصى شارع السعدون الشهير باتجاه الساحة حيث يشمخ على طرفيها فندقا «عشتار شيراتون» و«فلسطين ميريدان»، حيث كانت توجد كل الفضائيات ووسائل الإعلام العربية والعالمية آنذاك. ومن الجهة المقابلة لشارع السعدون من جهة الباب الشرقي كان العشرات من الأفراد يحملون لافتات ويرفعون شعارات تهتف بسقوط النظام.
لم يكن النظام قد سقط رسميا بعد حتى تلك الساعة التي بدأت تقترب من الرابعة عصرا، لكن ما إن اقتربت الدبابة من تمثال صدام وهبط منها أحد أفراد طاقمها ليصعد بكل ثقة باتجاه رأس التمثال ليلفه بالعلم الأميركي كانت الجموع قد كبرت نسبيا. تسمر الجميع عند منظر قد لا يتكرر. كان هناك ولأول مرة رئيس يسقط وهو حي ونظام يتهاوى بينما وزير إعلامه كان لا يزال يزف بشرى النصر عبر آخر الإذاعات الناطقة باسمه. هبط الجندي الأميركي مع علم بلاده ليتسلق التمثال ثانية لكن هذه المرة مع علم عراقي.. هو نفسه العلم الذي أوجده صدام حسين بنجومه الثلاث وبعبارة «الله أكبر» بخط يد صدام. كان الخط رديئا. وعلى غرار ملابس الإمبراطور لم يكن يجرؤ أحد أن يكاشف «الإمبراطور» الأخير بهذه الحقيقة المرة. وبحركة غلب عليها طابع الأداء المسرحي من نوع «الكوميديا السوداء» جذبت الدبابة التمثال الضخم فتهاوى تاريخ عمره 35 عاما. وفجأة هللت الجماهير التي هالها المنظر لسقوط القائد والتمثال بينما كان صدام حسين بشحمه ولحمه في حي الأعظمية في التوقيت نفسه يحمله على الأكتاف من تبقى من أفراد حمايته، بينما يهتف المئات ممن لم يسمعوا بعد بسقوط التمثال والنظام والدولة: «بالروح.. بالدم.. نفديك يا صدام». لكن صدام ولأول مرة وبعد 35 عاما لم يصدق حكاية الفداء هذه. والدليل أنه اختفى حتى تم العثور عليه في حفرة العنكبوت بعد شهور. وبالعودة إلى ساحة الفردوس التي شهدت الموت الرسمي للنظام فإن ما حصل بعدها مسلسل مأساوي لا يزال العراقيون يكتوون بناره حتى اليوم. الشاعر والناشط المدني أحمد عبد الحسين يجمل ما تبقى في حديث لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «ربما كنا مخطئين في التوصيف والتشخيص طوال السنوات العشر التي مضت. كانت أمنياتنا أكبر مما كنا نتوقع أو نتخيل أو حتى نتوهم. كنا نعتقد أن هناك ثغرة اسمها النظام السابق، وإذا ما تمكنا من غلقها فإننا سوف ننتمي إلى الفردوس.. هذا الفردوس الذي لا يزال مفقودا. لقد اتضح أن تلك الثغرة كنا نراها أكبر مما هي في الواقع وأن الخلل في واقع الحال أكبر منها بكثير وأعمق. كنا نرى أن النظام السابق وحده طرف وأن كل شيء آخر يقف مقابلا له. لقد كنا نتوهم والمصيبة أن الأميركيين أصيبوا بداء الوهم ذاته. إنهم لم يفهموا الشعب العراقي ولم يؤسسوا لما بعد حكاية إسقاط النظام التي كنا جميع نحن والأميركيون تصورناها وكأنها هي الهدف والقصة والقضية ومنتهى ما نطمح إليه».
وحيث إن عملية التغيير بدأت من ساحة الفردوس فإن هذه الساحة لم يستقر فيها تمثال بعد إسقاط تمثال صدام حسين حتى ليبدو أن شبح صدام لا يزال يطارد هذه الساحة. لكن وفي إطار مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية لعام 2013 فقد تم الاتفاق مع فنان شاب اسمه عباس غريب على إنجاز تمثال ضخم يمثل حضارة العراق وتاريخه ليتم نصبه في هذه الساحة. وكيل وزارة الثقافة العراقية فوزي الاتروشي أكد لـ«الشرق الأوسط» أن «التمثال يجري العمل به حاليا، وقد رصدت له ميزانية ضخمة، وقد أوشك الآن على الانتهاء». وأضاف الاتروشي أنه «يتم التعاقد الآن مع شركات متخصصة لإنجازه ونصبه في الساحة خلال هذا العام»، مشيرا إلى أن «هناك بعض التلكؤ في العمل، ولكنّ هناك إصرارا على إكماله ليتم نصبه في ساحة الفردوس».
وتتباين ذكريات العراقيين عن أحداث ساحة الفردوس بشكل كبير ومن بينهم هلال الدليفي وقيس الشرع وبسام حنا، الذين يعملون على بعد أمتار من الساحة. يقول الدليفي لوكالة الصحافة الفرنسية بينما هو يجلس على طاولة صغيرة على جانب الطريق عند ساحة الفردوس حيث يعمل في صرف مبالغ صغيرة من العملة: «أكيد أن الحياة أفضل الآن». وتابع أنه «في زمن صدام كانت الحياة صعبة فعلا، لكن السنوات العشر الماضية كانت جيدة بالنسبة لي». لكن صوت الدليفي تحول إلى الغضب عندما قيل أمامه إن الأميركيين كانوا لا يختلفون عن صدام بالنسبة للعراقيين، ولم ينسحبوا حتى نهاية عام 2011. وأكد الدليفي وهو يراقب بقايا تمثال صدام، قائلا «لنكن منصفين، صدام كان سيبقى مائة عام لولا الأميركيون».
في الجانب الآخر من ساحة الفردوس، كان هناك قيس الشرع الذي بدت عواطفه متباينة.. فقد استطاع الشرع عام 2002، فتح صالون حلاقة لاستقبال نخبة من المقربين من صدام حسين آنذاك، بينهم ضباط كبار ووزراء. وقام الشرع بعد تقدم الأميركيين إلى بغداد بتقليص العمل في صالونه لتغطية حاجاته الأساسية خوفا من اللصوص، ثم أغلقه بشكل كامل وراقب سقوط التمثال عبر شاشة التلفاز. وقال الشرع «يمكنني أن أقول إننا لم نكن نريد صدام، (فهو) لم يخدم البلاد» وتابع: «لكني شعرت بحزن لدى غزو العراق من الأميركيين». وأضاف: «لقد أسقطوا صدام، ولكنهم أضروا البلد». أما بسام حنا الذي كان في شارع السعدون، على مسافة قريبة من صالون حلاقة الشرع، فقد عمل طباخا لدى الجيش الأميركي في معسكر لتدريب القوات العراقية، جنوب بغداد، لمدة ست سنوات. وأعلن حنا بشكل علني أمام عدد من الحضور عن تقديره للجنود الأميركيين وكشف عن شهادة تقدير منحت له من قبل الجيش الأميركي كان يحتفظ بها تحت طاولة المحل. وقال حنا «لقد علموني كيف أكون محترفا في عملي وكيف أطور نفسي». وكانت السنوات الأولى من غزو العراق جيدة بالنسبة لحنا لكن السنوات التي بعدها شهدت أعمال عنف ضد المسيحيين نفذتها ميليشيا مسلحة مما دفع عددا كبيرا جدا من العائلات إلى الفرار إلى خارج البلاد، وهو الأمر الذي يدفع حنا الآن للتفكير بمغادرة العراق، للعيش مع عائلته التي رحلت إلى الولايات المتحدة الأميركية، مؤكدا أنه «لم يعد لدي شيء هنا».