بافي رودي : دور الدول الكبرى في القضاء على الأحلام الكردية
واتساع نطاق الدمار في بنيته التحتية ومشاريعه الحيوية باستمرار ،مما يعني ترسيخ التخلف وتجذيره. ومما يعمّق المأساة ويجذّرها ويوسّعها أفقياً وعمودياً لدى هذا الشعب الطيب البسيط هو عدم قدرته على الاستفادة من تجاربه ومآسيه ،وضعف التمييز بين أعدائه وأصدقائه الحقيقيين .
والسطور الآتية تسلط الضوء على جانب من مأساة الشعب الكردي ، وهو دور الدول العظمى في القضاء على الطموحات الكردية وتبديد أحلام الكرد والحيلولة دون وصولهم إلى أهدافهم .
1 - ثورة بدرخان باشا في جزيرة بوتان (جزيرة ابن عمر ) :
أسرة بدر خان في منطقة الجزيرة الفراتية من الأسر العريقة، وقد كانت تحكم باسم السلطان العثماني، ولكن طموحات الأمير بدرخان من جهة والوقوف في وجه دسائس الباب العالي والحيلولة دون استمرار الوقيعة بين العشائر الكردية من جهة ثانية قد دفعت به إلى تهيئة الأوضاع في إمارته والإمارات الكردية المجاورة لإعلان الثورة ضد الأتراك،فاتّجه منذ سنة 1821 إلى عقد الاتفاقيات وتوحيد الخطط والجهود مع هذه الإمارات ، وبثّ الوعي، بل وإنشاء تحالف كردي واسع بين العشائر الكردية، وأنشأ مصانع للأسلحة والذخائر،لئلاّ يقع تحت رحمة الدعم الخارجي،حتى إذا وجد الفرصة المناسبة أعلن سيطرته على معظم مناظق كردستان الخاضعة للسلطات العثمانية وتلك الخاضعة للنفوذ الفارسي،وبدأ بضرب النقود باسمه سنة 1842م، كما قام بتشجيع الصناعات الحرفية ،وأرسل بعثة علمية إلى أوربا ،واتصل بإبراهيم باشا في مصر لتوحيد الجهود ...إلخ .وأرسى دعائم حكم عادل ،وفرض القانون والقضاء العادل والنظام ،حتى غدا حكمه مضرب المثل :"من وطن بدرخان يسافر الطفل وفي يده الذهب "،كناية عن الأمن الذي استتبّ .
لكن الأتراك أفلحوا في إثارة السكان المسيحيين من طائفة النساطرة ضده، عندما حرّضوهم على الامتناع عن تأدية الضرائب له ،الأمر الذي دفع بدرخان إلى معاقبتهم على ذلك ،بالرغم من أنه كان يتبع معهم سياسة التسامح الديني،إذ إنه أمر فور تولّيه الإمارة بإبطال العادات المفروضة على الذميين ،مثل ارتداء زيّ خاص ، وترجّل المسيحي من على ظهر دابته إذا رأى أحد زعماء الكرد.كما شجّع المسلمين على الزواج من الأرمنيات والنسطوريات (1).وما يهمّنا في هذا المقام هو كيف التقت مصالح الدول العظمى وقتذاك ضد إمارة بدرخان ؟
التدخل البريطاني - الفرنسي :
استغلت بريطانيا وفرنسا الحملة التي جرّدها الأمير بدرخان ضد النساطرة، وتدخّلتا لدى الباب العالي العثماني ،وقدّمتا مذكرة احتجاج لديه ، على تصرفات الأمير،بذريعة الدفاع عن المسيحيين،ووعدتا السلطان العثماني بالمساعدة إذا احتاجها، الأمر الذي دفع السلطان العثماني إلى تجييش الجيوش وتجنيد كل القوى،مع الاستعانة بالمتطوعين من الأقاليم الأخرى لمحاربة الأمير بدرخان .وبالرغم من ذلك فإن ثورته التي استمرت ما بين 1843و 1848لم تتلاش إلا نتيجة خيانة ابن أخته (وقيل ابن عمه )عزالدين شير وتواطئه مع الأتراك .
يقول جلال الطالباني في كتابه " كردستان والحركة القومية الكردية ":
"لولا التدخل الانجلو - فرنسي ضد الأكراد ، بحجة الدفاع عن المسيحية ، لكان النصر حليفه "أي بدرخان "، ولتحققت أمنية الشعب الكردي في الحكم الوطني "(2).
2- حركة عزالدين شير :
بعدما تواطأ عزالدين شير (المعروف في المصادر الغربية ،لاسيما الروسية ب"يزدان شير ") مع الأتراك ضد خاله الأمير بدرخان ،ثار هوالآخر سنة 1853 م، أثناء الحرب التركية - الروسية (1853 - 1856 م)،في شبه جزيرة القرم،وقد استطاع عزالدين كسب ولاء السكان المسيحيين الذين قاتلوا معه القوات التركية. واستطاع بجيشه الذي بلغ تعداده مئة ألف مقاتل تحرير المنطقة الممتدة بين بحيرة وان (شرقي مدينة ديار بكر ) وبغداد ،واستمرّ حكمه أو انتفاضته نحو سنتين (3).
أما أسباب هذه الانتفاضة فقد ذكر المؤرخون أهمها ،وهي : الطلبات المستمرة على التجنيد الإجباري وتموينات الحرب التركية الروسية ،وكثرة الضرائب المفروضة على الأكراد ، وأعمال النهب والسلب والظلم والاضطهاد من جانب الباشوات الأتراك ضد السكان الكرد (4).
دور بريطانيا في إجهاضها :
قامت بريطانيا بالدور الأبرز في التآمر والقضاء على هذه الانتفاضة الكردية والحيلولة دون قيام كيان كردي مستقل، من خلال إرسال قواتها إلى جانب القوات التركية، فضلاً عن اتباع مخطّط ماكر خبيث .فما هو ؟
يقول د . "ن .أ.خالفين " في كتابه الصراع على كردستان " عن حركة عزالدين :
" أخذت الدبلوماسية البريطانية تشترك بنشاط ضد الثورة، وقد قيّمت الدوائر الحاكمة البريطانية الأحداث الجارية في كردستان التقييم الضروري، وأعطيت التوجيهات إلى الممثلين الدبلوماسيين الإنكليز شرقي تركيا ،لاتخاذ التدابير اللازمة لإخماد الانتفاضة، ووضع المال اللازم في خدمة هذا الغرض،فبدأ عميل القنصلية الإنكليزية في الموصل "نمرود رسام " بالمفاوضات مع يزدان شير وغيره من زعماء الحركة الإقطاعيين.وبحجة القيام بالوساطة بين يزدان شير وممثلي استانبول قدم نمرود رسام إلى الزعيم الكردي (400) كيس من الدراهم، بحسب بعض المصادر،ونجح في زرع الشقاق في صفوف الثوار .وقدّم الانكليز الذين كانوا موجودين في أماكن قريبة من الأحداث الجارية المساعدات المباشرة الفعلية للقوات الحكومية في حربها ضد الكرد ".
ويضرب "خالفين" مثلاً على اشتراك البريطانيين الفعلي ضد الكرد،فيقول: "فمثلاً قاد [ماكون]الذي كان هناك عمليات المدفعية التركية المستخدمة لاجتياح التحصينات الكردية ". ويتابع :"وقد استطاعت القوات التركية مستخدمة أسلحة جديدة تلقّتها بغزارة من ترسانات الأسلحة الإنجليزية , احتلال المدن ونقاط تقاطع الطرق ومطاردة الثوار إلى الجبال..".إلى أن يقول : "واستحصل رسام العميل الإنجليزي من يزدان شير موافقته على مقابلة مبعوث السلطان المخوّل بتصفية القضايا المختلف عليها . وبالرغم من أن الدبلوماسي الإنجليزي والشخصيات الرسمية التركية تعهّدوا بضمان سلامة زعيم الثورة ,إلا أنه ألقي القبض عليه في أحد اللقاءات , ثم أرسل إلى استانبول وألقي في السجن "(5).
وذكر افريانوف في كتابه "الأكراد" (ص 500) رسالة أفرام إلى قيادة الجيش الروسي في 30آذار 1855م يقول :"لاحظ بطريرك الآشور أفرام بأن القنصل البريطاني اختطف يزدان شير بطريقة مخادعة "(6).
فتكون بريطانيا في هذه الانتفاضة أيضاً قد قامت بدور غير شريف، تحقيقاً لأطماعها ومصالحها التي هي بالضد من مصالح الشعب الكردي. ولكن بقي أن يفهم الكرد هذه الحقيقة .
3-انتفاضة الشيخ عبيد الله النهري (1880):
كان الشيخ عبيد الله يمهّد للانتفاضة منذ فترة طويلة , وذلك بالاتصال بزعماء العشائر الكردية ,ويناشدهم التعاون معه في وجه الظلم الفارسي والهيمنة التركية ,إلى أن وفّق في عقد مؤتمر للعشائر الكردية في قرية نهري - مسكن الشيخ نفسه ,التي تقع ضمن كردستان التركية, وترأّس الشيخ المؤتمر ,الذي انبثقت عنه "جمعية العشائر الكردية "التي حملت راية الجهاد والنضال .
ولم تقتصر جهود الشيخ النهري على الاتصال بزعماء الكرد فقط ,بل بذل جهوداً كثيرةً أيضاً في سبيل الاتصال بحكومتي روسيا وبريطانيا,لأجل اطلاع الحكومتين المذكورتين على ما يلاقيه الشعب الكردي من ظلم واستغلال من الحكومتين التركية والإيرانية, مطالباً إياهما بوضع حلّ للقضية الكردية. ففي رسالة إلى القنصل البريطاني ورد ما يأتي :
"الكرد شعب شجاع حرّ ذو مزايا وخصال حميدة، وتقاليد وعادات خاصة بهم، ومع ذلك يحاول الأعداء وصمهم بالقتلة والوحوش. إن رجال الكرد المتنفّذين في تركيا وإيران متّفقون حول هدف واحد، لذلك يجب إيجاد حلّ سريع لمسألتهم,وإلا فإن الكرد سيجدون بأنفسهم الحل المناسب,لأنهم لم يعودوا يطيقون المظالم والقتل التي ينزلها الأعداء بهم. إننا لا نقصّر أبدًا لتحقيق هذا الهدف المفدّى، ونضحّي بجميع ما نملك وبأرواحنا وسنريق آخر قطرة من دمائنا لمقاومة الدولتين التركية والإيرانية،والمطالبة بحقنا في الاستقلال "(7).
ولما علم الكرد بعقم هذه الاتصالات هبّوا تحت قيادة الشيخ عبيدالله،وحملوا السلاح لأخذ حقهم، وتدفّق المتطوعون من المناطق الكردية كافة: شمزينان، موكريان، بهدينان، وان، ودحروا الجيش الإيراني وحرّروا مناطق عدّة، كما حرّروا مدن مهاباد،رضائية،منطقة شمزينان، ومنطقة موكريان. وبعد معارك جرت بين القوات الإيرانية والثوار الكرد هزم فيها الجيش الفارسي لم تر الحكومة الإيرانية بدّاً من التوجّه إلى الخارج للاستعانة به ضد هذا الخطر.
دور بريطانيا وروسيا في إجهاض هذه الحركة:
توجّهت الحكومتان التركية والإيرانية إلى الحكومتين البريطانية والروسية لطلب المساعدة ضد ثورة الشيخ عبيدالله النهري، فحصلتا على مساعدتيهما (8).
جاء في مجلة "شمس كردستان "بقلم الدكتور أحمد عثمان (9) :
وظهر أن مبعوث إنكلترا "كلايتون " والسفير البريطاني في طهران "تومسون " يقفان موقفاً سلبياً من الانتفاضة، ودعا الأخير إلى تقارب إيراني ـ تركي للوقوف بوجد الحركة.وكتب إلى وزارة الخارجية البريطانية حول أهداف عبيد الله قائلاً :
"إن الزعماء الأكراد يرغبون في خلق كردستان على مبادئ الوحدة والاستقلال".
وبعد التدخّل الأجنبي, والتهديد باستعمال الجيوش القيصرية, وبعد اتفاق تركيا وإيران ضد الثورة الكردية, وحشدهما لمجموعة ضخمة من الجيوش, اضطرت الثورة إلى قبول التفاوض مع الحكومة العثمانية حول المطاليب الكردية .
وخُدع الشيخ عبيد الله ,فذهب على رأس وفد كردي إلى العاصمة التركية استانبول, وهناك قُبض عليه وأُودع السجن بدل التفاوض, وكان لضغط الإنجليز والقيصر الروسي أثر كبير في انخداع الشيخ وذهابه إلى الآستانة.وبعد فترة نُفِي الشيخ عبيد الله وأسرته إلى مكة المكرمة ,فتوفي هناك (10).
وإذا كانت الذريعة التي تذرّعت بها بريطانيا وفرنسا للتدخّل ضد ثورة الأمير بدرخان هي حماية المسيحيين, فإن الأمر بالنسبة لثورة الشيخ عبيد الله مختلف, فقد كان النساطرة في منطقة شمزينان تعّهدوا بتوحيد جهودهم مع الشيخ – كما يذكر "كلايتون"المقيم البريطاني في كردستان في شهادته (11
يتبع بعد: اتفاق سايكس- بيكو وتأثيره على الكرد