لماذا جاء الربيع العربي؟
تصادف هذه الأيام ذكرى انطلاقة الشرارات الأولى للربيع العربي. وإذ تكثر التفسيرات عن أسباب قدوم هذا الربيع، وتشيع خاصة منها تلك التفسيرات التآمرية، ينسى أصحاب هذه المقولات أن الواقع العربي السابق لهذا التاريخ كان يحمل في طياته كثيراً من المؤشرات التي توحي بحتمية حصول ماحصل. فسنن التاريخ وقوانين الاجتماع البشري لاتحابي أحداً، وهي من القوة بحيث لايمكن إعاقتها بأي قوةٍ أمنية كانت أو سياسية أو مالية.
لايحتاج الأمر إلى قراءة الغيب، وإنما إلى استقراء منهجي لتلك السنن والقوانين، والنظر في الواقع العربي وإمكانية تطبيقه عليها. وفيما يلي جملة اقتباسات من مقالات نشرها كاتب هذه الكلمات على مدى أكثر من عشر سنوات ماضية فيها مايشير إلى ماهو قادم، وإلى ما أصبح أمراً واقعاً في نهاية المطاف.
ففي مقال بعنوان (لماذا نخاف من الإصلاح) جاءت الفقرة التالية: والبعض يخشى من الإصلاح خوفاً من أن يكون طريقاً للفوضى، وقلب الأمور رأساً على عقب.. والحقيقة أن ذلك ليس من الضرورة بمكان على الإطلاق. لأن من الممكن جداً الوصول إلى عقدٍ اجتماعي وسياسي يأخذ بعين الاعتبار خصوصية الثقافة السياسية العربية، وخصوصية النظام السياسي العربي، وخصوصية العلاقة التاريخية والمعاصرة بين الحاكم والمحكوم في البيئة العربية، وخصوصية ومميزات هياكل وأطر العلاقة بينهما، وهي كلُّها خصوصيات لم يعد بالإمكان تجاهلها إذا أردنا حقاً أن نخرج من المأزق المستحكم الذي يمكن ملاحظته في كثير من البلاد العربية..
وفي مقال آخر بعنوان (هل اقتربت نهاية زمن الاستحقاق العربي) ورد هذا الكلام: إلا أن التغييرات الجذرية التي بدأت تتفاعل على الساحة العالمية ثقافياً واقتصادياً وسياسياً منذ بداية التسعينيات الميلادية تراكمت مع بداية الألفية الجديدة ، بشكلٍ بدأ فيه النظام السياسي العربي يفقد الأدوات الأساسية التي كانت تمكنه من الحفاظ على تماسكه . فمع سقوط زمن الأيديولوجيات التي كانت تضفي بعض مشروعيةٍ هنا وهناك ، ومع تغير خرائط التحالفات السياسية والاقتصادية والعسكرية في كثير من أنحاء العالم ، ومع تزايد مدِّ ثورة الإعلام والاتصالات التي اكتسحت العالم فكشفت المستور وسمحت بالممنوع وعرَّفت بالمجهول ، ومع شيوع موضة الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم ، ومارافقها من انحسار موضة الحكم بواسطة الأمن والمخابرات والبوليس السري ، ومع تـغوِّل العولمة الاقتصادية وازدياد جشع الشركات متعددة الجنسيات للأسواق البكر والأيادي العاملة والمواد الخام الرخيصة ، صار من الصعوبة بمكان الحفاظ على تلك القشرة التي تحدثنا عنها، والحفاظ على ما تحتها ، في معزلٍ عن جميع هذه التطورات الحاسمة التي غيرت بشكل استثنائي حياة الإنسان على وجه الكرة الأرضية .
أما المقال بعنوان (علاقة المعارضة بالسلطة) فقد انتهى بالفقرة التالية: لابد إذاً من الاعتراف بتلك الحقائق كخطوة أولى على طريق صياغة المعادلة الجديدة للعلاقة بين السلطة والمعارضة في العالم العربي. لابد من الاتفاق على هذه المقدمة بشكلٍ عملي بغض النظر عن طريقة الإخراج.. ففي معزلٍ عن ذلك الاتفاق سيظل الحوار حوار طرشان. ومابين فقدان الثقة بالآخر والاعتماد على الأوهام، لن تكون النتيجة سوى المزيد من الحسابات الخاطئة، بكل مايترتب عليها من كوارث وإخفاقات.
ثم كان مقال (التغيير من أجل الاستقرار) والذي جاء فيه: إن التغيير في العالم العربي مطلوبٌ اليوم، ومطلوبٌ بشدّة، في كل مجال وعلى كل صعيد. وليس هذا فقط قناعةً شخصيةً من كاتب هذه الكلمات، وإنما هو نداءٌ سمعتُهُ، ورغبةٌ كانت تُعبّر عن نفسها بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، في كل اللقاءات التي أسعفني الحظ بالوجود فيها، سواء على المستوى الخاص أو العام، والتي جَمَعَت في مجموعها أطيافاً متنوعةً من شرائح النخبة سياسيين وصحفيين ورجال أعمال وأكاديميين ومثقفين وعلماء في الدين والشريعة.. الأمر الذي يعني أن التغيير المطلوب والمنتظر يتعلق بشكلٍ أو بآخر بالسياسة والإعلام والاقتصاد والتعليم والثقافة والدين.. هذا فضلاً عن كثيرٍ من مظاهر الشكوى والتذمر السائدة بين عامة الناس خارج دوائر تلك النخبة، والتي تكتمل من خلال الوعي بدلالاتها دائرة الإجماع على الحاجة للتغيير في واقعنا العربي المعاصر. وهذا كلُّه إن كان يعني شيئاً ، فإنما يعني أنه لم يعد هناك مجالٌ اليوم للخوف من التغيير، أو للنظر إليه على أنه قد يُهدّدُ الاستقرار، وهو يعني أن الأوان قد آن للإقدام على التغيير دون حذرٍ مُبالغٍ فيه، بعيداً عن الحسابات التقليدية، لأنه أصبح المدخل الأكيد، وربما الوحيد، إلى ذلك الاستقرار..
وفي مقال (التنمية والمشروعية ومستقبل العالم العربي) جاء الختام كما يلي: خلاصة القول معروفة. فعملية التنمية العربية الحقيقية تكاد تُراوح في مكانها، ووجهة الاقتصاد العربي على المدى المتوسط والبعيد لاتبشّر بالخير.لهذا، آن الأوان للتفكير بشكلٍ استراتيجي فيما يمكن أن ينتج عن تلك الخلاصة في المجالات الاجتماعية والسياسية والأمنية في العالم العربي بشكل عام، وعلى صعيد المشروعية السياسية تحديداً. نحن نتحدث هنا عن قوانين للاجتماع البشري لايمكن التعامل معها بالتأجيل والتسويف والتجاهل. لاتوجد حلول وسط لهذه القضية، ولابدّ من واقعيةٍ شديدة في تفكير النخبة، تؤدي إلى تنازلاتٍ تقوم بها، وتحفظ الجميع من السقوط في الهاوية. أما من يهمس في الآذان بغير ذلك، فإنما يبحثُ عن مصلحةٍ فردية آنيةٍ له، وليس له علاقةٌ من قريب أو بعيد لابمصلحة العرب، ولابمصلحة النظام العربي، ولاحتى بمصلحة من له مصالح استراتيجية في بلاد العرب..
ثم كان مقال (زمن سقوط المحرمات) الذي جاء فيه: وفي حين كان يمكن كتابة مجلد عن (المسلّمات) في العالم العربي من سنوات، لم تبق هناك فكرة لاتقبل النقاش أو الجدل أو التشكيك في الزمن الراهن. إن لم يكن في الواقع ففي الصحف. وإن لم يكن في الصحف والمجلات فمن خلال رسائل الهواتف النقالة، وإلا فعلى الفضائيات، وإن لم يكن عليها فعلى الانترنت. وهكذا دواليك. والذي لايعرف هذه الحقائق بالشواهد والأمثلة لايعرف شيئا عن الواقع العربي المعاصر. باختصار، بدأت رحلة سقوط المحرمات، وأصبح صعبا أن تتوقف على المدى المنظور.
ليس السؤال إذاً: لماذا جاء الربيع العربي؟ بل قد يكون: لماذا جاء متأخراً؟
*نقلا عن صحيفة "المدينة" السعودية.