هل يعلن الربيع العربي بداية قرن كردي جديد؟
بموازاة الثورات الشعبية في الدول العربية, ثمة ثورة هادئة في الأراضي الكردية في تركيا, وسورية والعراق وإيران. في الواقع, كانت ثورات العالم العربي عاملاً محفزا لما كان يختمر في الأراضي الكردية منذ عقدين من الزمن.
هناك بعض أوجه التشابه والاختلاف بين الثورات العربية والكردية. في الحالة العربية نحن نتحدث عن دول, بينما في الحالة الكردية, نحن نتحدث عن كيان قوي قوامه 30 مليون كردي من دون دولة, بل مجتمع متقلب من الناحية السياسية. لكن في كلتا الحالتين, العرب والأكراد كسروا حاجز الخوف, وكان لهذا الأمر دور مهم في تطور الحركات الشعبية, وفي كلتا الحالتين, ادت سلطة الشعب دوراً حاسما. كما أسهمت وسائل الإعلام الجديدة اسهاما كبيرا في تحقيق النجاح في الحالتين على حد سواء.
وبالمثل, كما في العالم العربي, فان لدى الاكراد, أيضا, جيلا جديدا, يمكن ان يسمى "جيل مستقيم" استعاد صوت الأكراد, وحقق رؤية واضحة للقضية الكردية على الساحة الدولية. ومن المؤكد ان الصحوة العربية كانت مصدر الهام في بعض أجزاء من كردستان, بيد أن الناحية العملية اتخذت اتجاهات مختلفة تماما.
في الواقع, ساعد ذلك التوقيت المتوازي على تمويه الخلافات العميقة بين الثورتين العربية والكردية. ففي حين تحدت الثورات العربية أنظمة الحكم, شكل الاكراد تحديا لوحدة التراب والهوية الوطنية للدولة. ويعتبر هذا صحيحا وخصوصاً بالنسبة إلى الأكراد في العراق ولكن أصبح الأمر كذلك شيئا فشيئا لدى الأكراد في سورية, وبدرجة أقل في تركيا وإيران كذلك.
إن السبب الرئيسي لهذا التطور يكمن في إفلاس مفهوم الدولة. فالدولة القومية بالنسبة إلى الاكراد تعني طمس هويتهم وحقوقهم السياسية خلال الجزء الأكبر من القرن العشرين, ومن ثم كان رد الفعل عنيفا. كما ان اضعاف الدولة إزاء المجتمع كما حدث في معظم بلدان المنطقة لعب أيضا دورا في صالح الأكراد.
ثمة أيضا فرق كبيرة آخر بين الحالتين العربية والكردية, وهو أن الثورات في الدول العربية عززت الاتجاهات الإسلامية في المجتمع, ومنحت الشرعية للإسلام السياسي حتى في الدول العلمانية مثل تونس, بينما في الحالة الكردية لم تكتسب الحركة الإسلامية أرضية أخلاقية وسياسية, بل بدلا من ذلك, ظهرت النزعات القومية الإثنية اليوم.
يمكن تفسير هذا الاختلاف من خلال حقيقة معروفة جيداً بأن الاسلام السياسي عند الأكراد لم يضرب جذورا عميقة. وخير ما يدلل على هذه الظاهرة نتائج الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في يوليو 2009 في حكومة اقليم كردستان في العراق التي لم يفز فيها الحزبان الاسلاميان معا سوى بتسعة مقاعد من أصل 11 مقعداً في البرلمان.
على صعيد آخر, بينما أخرجت الثورات العربية الى السطح انشقاقات وانقسامات المجتمعات العربية, نرى في الحالة الكردية, اتجاها معاكسا حيث الوحدة أكبر وأهم. ولذلك, فإذا شهدت بداية القرن العشرين تقسيم الأكراد بين أربع دول, تم الحفاظ بعدها على العلاقات بين مختلف الطوائف, فإن بداية القرن الحادي والعشرين ولا سيما الثورات الأخيرة قد قربت فيما بينها أكثر.
علاوة على ذلك, فقد فتحت الطريق أمام بعض المناصرين للقضية الكردية, للتخفيف نوعا ما من النزعات المزمنة الى النزعة القبلية والحروب الداخلية والتحزب. عموماً في الوقت الذي لم تجلب الحروب والاضطرابات في القرن العشرين سوى الكوارث للأكراد, فان حرب عام 2003 والاضطرابات عامي 2011 - 2012 فتحت امامهم آفاقا جديدة. كما أن صورة التخلف والسلبية واللامبالاة التي التصقت بهم خلال أجيال أفسحت المجال لتحل محلها صورة يكتنفها الحزم والحنكة.
ورغم حقيقة وجود الأكراد في أربعة بلدان مختلفة, هناك تأثير معد وتأثير متبادل وتفاعل بينهم في تلك الدول الأربع, فقد اكتسبت الحركة العابرة للحدود الوطنية زخما كبيراً بفضل التغيرات الجغرافية - السياسية في المنطقة, وتأكيد الذات بشكل أكبر لدى الأكراد, والدور الحاسم للشتات, ووسائل الإعلام الجديدة, والأهم من ذلك, الدولة الفعلية, أي حكومة "اقليم كردستان" التي اصبحت نموذجا جاذبا لجميع الأكراد.
الواقع ان مفهوم كردستان خضع لتحولات مهمة فبينما في الماضي كانت الحالة المحلية لكل جزء هي الأمر السائد, أما الآن فان"كردستان الكبرى". أصبحت جزءا من الخطاب الكردي الجديد. بالنسبة إلى الجيل الجديد لم يعد المركز هو الدولة, بل كردستان الكبرى". ويتضح هذا في تلك المصطلحات التي تشير إلى مجتمعات ليس وفقا لدولها, بل وفقا لأجزائها ضمن وحدة كردستانية. وهكذا, نجد ان الشمال يشير الى كردستان تركيا والجنوب يشير إلى كردستان العراق والشرق كردستان إيران والغرب كردستان سورية
بعد هذه النظرة العامة, أود أن ننظر بايجاز في كل من المناطق الكردية بشكل منفصل إن الانعكاسات على الحكومة الكردية الاقليمية هائلة, رغم انه ليس هناك ثورة على غرار ثورات الدول العربية. فالتطورات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط رفعت الحكومة الكردية الاقليمية الى مكانة الزعيم الفعلي للأجزاء الأخرى من كردستان. والدور المحوري لاقليم كردستان واضح في المؤتمرات التي يشارك فيها الأكراد من جميع أجزاء كردستان وفي العالم أجمع, وفي الاساس, يوفر للجماعات السياسية وللفارين من الأكراد ملجأ وملاذا آمنا, وأخيرا أصبح الاقليم قبلة الأحزاب السياسية التي تأتي لدعم أو استشارة أو وساطة.
حقيقة أن اقليم كردستان مازال جزيرة الاستقرار والرخاء وهذا اكسب الاقليم مزيدا من الشرعية في العالم, وخصوصا في ظل حالة عدم الاستقرار في العراق والتغيرات الهيكلية في المنطقة, كل هذا زاد في قدرة كردستان على المناورة السياسية تجاه جيرانها, وشد من عضدها في ما يتعلق ببغداد.
الثورة الحقيقية جرت في أوساط"أكراد سورية" الذين كانوا في الآونة الأخيرة اقلية صامتة, منعزلة عن بقية العالم. وكان يشك الكثير من المحللين في ان هذا المجتمع, المجزأ سياسيا وجغرافيا, والذي يفتقر - علاوة على ذلك - الى هدية الطبيعة من جبال منيعة استمتعت بها الاجزاء الأخرى من كردستان, يمكنه في الواقع حشد القوة اللازمة لممارسة أي دور مهم على الساحة الكردية.
ثم حدث ما لا يصدق. ضمن فترة قصيرة من الوقت تحول أكراد سورية إلى لاعب لا يستهان به كيف حصل هذا? حقيقة أن أكراد سورية يقيمون في محيط جغرافي وسياسي فقط ساعدتهم على اتخاذ زمام المبادرة, بعيداً عن عيون الحكومة وأحزاب المعارضة الأخرى.
إن كفاح نظام الأسد من أجل البقاء على قيد الحياة اجبره على غض الطرف عما يجري من تطورات في المنطقة الكردية, بل انه حاول كسب الأكراد وتحويلهم إلى حليف نوعا ما ضد الاطراف الأخرى في المعارضة. كذلك, فان العلاقات الوثيقة بين حزب العمال الكردستاني التركي وحزب الاتحاد الديمقراطي السوري أفسد العلاقات بين دمشق وأنقرة, ودفع دمشق لتوظيف كل من حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي ضد تركيا حليفتها لفترة لم تدم طويلا. ومع ذلك, كان الوقود الرئيسي للحركة الكردية معاناتهم لسنوات جراء التمثيل والاستيعاب والتعريب وطمس الهوية الكردية, بالمعنى المزدوج للكلمة.
التطورات الأخيرة في أوساط أكراد سورية كان لها أثر فوري في حكومة اقليم كردستان, ولا سيما بشأن الأكراد في تركيا. اذ ان حقيقة تمكن أكراد سورية من السيطرة على قرى وبلدات كردية في شمال سورية فتح أمام اقليم كردستان أفقا جديدا لم يحلم به من قبل, وهو امكانية الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط عبر كردستان سورية فبالنسبة الى منطقة غير ساحلية, يمكن ان يكون ذلك خطوة مهمة نحو الاستقلال.
كذلك الأمر بالنسبة إلى اكراد تركيا, فان أثر "الربيع العربي" المعدي, لا سيما في سورية, كان كبيراً وحاسما, فقد تأثر الأكراد في تركيا على ثلاثة مستويات مختلفة.
أولا, الحملة القوية التي قادها حزب العدالة والتنمية ضد الأسد ودعمه للمعارضة السورية دفعت الأسد الى تجديد دعمه لحزب العمال الكردستاني في مقابل ذلك.
ثانيا, دعم موقف أكراد سورية نتيجة استيلائهم على مناطق كردية في سورية ومطالبتهم بنظام اتحادي اصبح مصدرا للتقليد والمحاكاة بالنسبة لأكراد تركيا.
ثالثا, اصبحت الحدود بين أكراد تركيا وأكراد سورية يسهل اختراقها, وهذا يعزز التأثيرات العابرة للحدود بين هذين المجتمعين.
كما ان أهم تطور للأحداث بين الأكراد في تركيا هو ترسيخ حركتهم بين جناحين: عسكري وسياسي شعبي.
منذ الاستيلاء على المنطقة الكردية سورية, صعد حزب العمال الكردستاني الى حد كبير هجماته ضد أهداف تركية. وفي الوقت نفسه, تم تعزيز المقاومة الشعبية على طريقة غاندي بقيادة حزب العمال الكردستاني وحزب السلام والديمقراطية بأشكال مختلفة شملت التظاهرات واعتصام أمهات اختفى اولادهن, واقامة صلاة الجمعة باللغة الكردية في الشوارع, ومقاطعة جلسات البرلمان ومساجد الحكومة, وكان آخر تحرك لهم, الاضراب عن الطعام من قبل مئات السجناء من الأكراد.
كل ذلك شكل تحديا خطيرا أمام حكومة حزب العدالة والتنمية التي وعدت المرة تلو الأخرى بالتوصل الى حل سلمي للمشكلة. ومن المفارقات أنه في ظل حكومات حزب العدالة والتنمية أمست قضية الأكراد مسألة متعددة الأبعاد زاخرة بالمفارقات, وأكثر تعقيداً بكثير من أي وقت مضى.
في ما يتعلق بالأكراد في إيران, يبدو كما لو أن الاضطرابات في المنطقة قد تجاوزتهم.
في الواقع, منذ أن قمعت بوحشية انتفاضتهم خلال السنوات الأولى لقيام "الجمهورية الإسلامية" (1979-1983) استمر أكراد إيران في معارضة الأنظمة الإيرانية في فترات مختلفة, مع الاختلاف في قوة هذه المعارضة.
ورغم أنهم ظهروا كما لو أنهم كانوا نائمين سياسيا في السنوات القليلة الماضية, فانهم يتمتعون بالقدرة على أن يصبحوا محرك التغيرات العميقة في ايران نفسها, كما هو الحال في المناطق الكردية الأخرى أنهم ينتظرون فقط الشرارة الأولى.
خلاصة القول, قد تكون السنوات المئة الماضية هي الأسوأ في تاريخ الأكراد, لما اكتنفها من انقسام بين دول مختلفة, وحملات دمج واستيعاب وحتى إبادة جماعية ولكن القرن الحادي والعشرين يبشر بأمور جديدة أفضل فقد استعاد الأكراد صوتهم, وهو يتهم ورؤيتهم في العالم علاوة على ذلك, فإن الاضطرابات في العالم العربي رفعتهم الى مستوى لاعب مهم في المنطقة قادر على إعادة تشكيل الخريطة الجغرافية الستراتيجية لهذه المنطقة وإذا أضفنا الى هذا أنه في القرن الحادي والشعرين فقدت البقرات المقدسة في الدول القومية بعض قدسيتها, لذا فان لدى الاكراد بعض الأمل لكي يتفاءلوا بمستقبل أفضل.
*أستاذة في مركز موشي دايان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا والمقالة نشرت في "ريال كليرورلد".
عن/ السياسة الكويتية