تركيا: آمال وليدة لسياسة كردية جديدة..... أمير طاهري
وسرعان ما تطور هذا الإضراب، الذي بدأ بمجموعة صغيرة من السجناء، ليتحول إلى قضية عامة تحظى بدعم كبير، ليس فقط من جانب الأكراد ولكن أيضا من جانب دوائر أوسع داخل الرأي العام التركي. وانضمت بعض الشخصيات العامة إلى الإضراب، كما أعربت شخصيات أخرى، بما في ذلك زعيم المعارضة التركية كمال كليتشيدار أوغلو، عن تأييدها وتعاطفها مع هؤلاء السجناء.
ويرى منتقدو أردوغان من اليمين المتطرف أنه اضطر إلى إنهاء هذه الأزمة وهو في موقف ضعف، أما منتقدوه من اليسار فيتهمونه بإطالة أمد الأزمة لكي يشبع غروره ويظهر أنه شخصية قوية، في حين لا تتوقف وسائل الإعلام التركية عن التكهنات وطرح أسئلة من نوعية «من الفائز ومن الخاسر في تلك الأزمة؟».
لكن ما الذي سيحدث لو انفجر هذا الموقف السياسي ليتعدى تلك الكليشيهات وهذه النوعية من الأسئلة؟ أليس من الممكن أن تكون الديمقراطية التركية هي الفائزة في لعبة ليس بها خاسرون؟ لقد استغرقت الديمقراطية التركية عقودا لكي تتمكن من وضع آلية ذات مصداقية لحل النزاعات السياسية عن طريق التسوية، بدلا من استخدام العنف والعنف المضاد.
وخلال العقد الأول كانت «الديمقراطية التركية» تستحق هذا الاسم بالكاد، بسبب وجود نظام قائم على حزب واحد فقط. وفي العقد الثاني ظهر نظام الحزب ونصف الحزب، حيث كان حزب واحد يقوم بالحكم، في حين يقوم الحزب الآخر بالثرثرة والضجيج في المعارضة من حين لآخر. وفي العقد الثالث، كان نظام التعددية الحزبية أكثر أو أقل قبولا بشرط أن يتم الحفاظ على التماثل الآيديولوجي، وعملت القوات المسلحة على ضمان هذا التماثل، من خلال القيام بانقلابات عسكرية إذا ما شعرت بأن الحزب الحاكم قد خرج عن الخط المرسوم له.
وانتظرت الديمقراطية التركية حتى العقد السادس حتى تقبل الآيديولوجيات الأخرى، حيث مكنت حزب العدالة والتنمية الإسلامي من تشكيل الحكومة. ومع ذلك، واصل حزب العدالة والتنمية نفس التقليد الاستبدادي من خلال محاولة الحفاظ على التنوع ولكن داخل حدود صارمة، في حين يقوم خلسة بتطهير الدولة من العناصر التي لا تشاركه نفس آيديولوجيته.
ولم تكن الحملة التي يشنها حزب العدالة والتنمية ضد التنوع أكثر ثباتا واتساقا في أي مكان آخر أكثر مما كانت عليه مع الأكراد الذين يشكلون ما لا يقل عن سدس عدد السكان. ومما لا شك فيه أن السياسة التي ينتهجها حزب العدالة والتنمية مع الأكراد لم تكن قمعية مثل السياسات التي كانت تتبعها الأحزاب السابقة، وهذا يعود بصورة جزئية إلى أن الحزب يدين بالكثير من نجاحه في الانتخابات للدعم الذي تلقاه من المناطق التي تقطنها أغلبية كردية في جنوب شرقي الأناضول. ومع ذلك، لم يكن حزب العدالة والتنمية قادرا على التخلص من الانعكاس الجنوني لاستخدام القوة في التعامل مع أصعب جوانب القضية الكردية. وعلى مدار عقد كامل، تجاهل الحزب النداءات المتكررة من قبل المعتقل عبد الله أوجلان، وهو القائد التاريخي لحزب العمال الكردستاني، للدخول في مفاوضات لحل تلك المعضلة المعقدة للسياسة التركية.
ويدعي أصدقاء أردوغان أن أوجلان، وهو رجل مسن قد أفل نجمه، يحاول أن يحقق مكاسب شخصية، ولكن لو كان الوضع كذلك فما هو السبب وراء الاستمرار في اعتقال رجل مسن ومريض لفترة أطول؟
وعلى الرغم من أن بعض المشاركين في هذه اللعبة المعقدة لسياسة حافة الهاوية قد يكونون أتباعا للمدرسة الميكافيلية في السياسة، فهناك عدد من النقاط الواضحة:
أولا: هناك أدلة كثيرة على أن غالبية المجتمع الكردي في تركيا لا تريد الانفصال، ولا تشارك حزب العمال الكردستاني حلمه المتمثل في ديكتاتورية البروليتاريا، علاوة على أن الكثير من الأكراد، إن لم يكن غالبيتهم، والذين لن يصوتوا مطلقا لحزب العمال الكردستاني، ليسوا على استعداد لتأييد سياسة القبضة الحديدية في ما يتعلق بالأمور الخاصة بهم. وهذا ليس غريبا، ففي فرنسا على سبيل المثال نجد أن غالبية سكان جزيرة كورسيكا ترفض الجماعات الانفصالية، لكنها لا تتفق مع سياسة سحق تلك الجماعات بالقوة، وهذا هو الحال أيضا في إسبانيا حيث نجد أن غالبية سكان الباسيك تقوم بحماية الانفصاليين، لكنها لا تصوت لهم على الإطلاق.
ثانيا: يجب أن يكون واضحا أن استراتيجية حزب العمال الكردستاني التي تعتمد على الكفاح المسلح قد فشلت، ولم تحقق شيئا يذكر سوى عقود من الحرب التي أودت بحياة 50.000 شخص، كما أدت تلك الاستراتيجية إلى عرقلة التنمية الاقتصادية في المناطق التركية ذات الأغلبية الكردية، مما يجعلها الأكثر فقرا في البلاد التي شهدت تحولا جذريا خلال العقد الماضي.
ثالثا: فشلت استراتيجية الحكومة التركية التي تعتمد على القبضة الحديدية هي الأخرى. وقد أثبت حزب العمال الكردستاني وحلفاؤه قدرتهم على مواصلة شن حرب محدودة لفترة أطول مما نتخيلها، مدعومين في ذلك، ولو بصورة غير متواصلة، من جيرانهم المزعجين مثل سوريا وإيران، وهو ما يُمكن حزب العمال الكردستاني من مواصلة أعماله القتالية دون صعوبة كبيرة.
وفي الواقع، يتعين على رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أن يقطع الطريق أمام هذه الفرصة ويكشف النقاب عن استراتيجية جديدة للتعامل مع المشكلة الكردية، وتتمثل الخطوة الأولى في هذا الاتجاه في الاعتراف بأن هذه المشكلة موجودة في الأساس.
وبعد ذلك، يتعين عليه أن يشن حملة لحشد دعم شعبي لهذه الاستراتيجية الجديدة، كما يجب عليه أن يخبر شعبه بأن الديمقراطية التركية هي الآن قوية بما يكفي للتعامل مع التنوع الموجود في الدولة على أنه مصدر قوة وليس مصدر ضعف. إن رغبة الأكراد في التحدث باللغة الكردية وقراءة الوثائق الرسمية بلغتهم الأم لا تمثل أي خطر على وحدة تركيا كجمهورية متحدة، وخير مثال على ذلك أن إسبانيا لم تصب بأي أذى على الرغم من أن بعض مواطنيها يتحدثون باللغة الكتالونية، كما لم تتأثر وحدة فرنسا بسبب توافر وثائق رسمية باللغة البريتانية. إن وجود أكثر من 500 لغة، ناهيك عن عشرات الثقافات المختلفة، لم تضعف الديمقراطية الهندية على مدى العقود الستة الماضية.
في الواقع، الديمقراطية تعني قبول الآخر في إطار من المواطنة وفي ظل سيادة القانون. وبما أن تركيا تعد دولة ديمقراطية، فإن الأكراد الغاضبين ليس لديهم أي عذر لحمل السلاح ضدها. ولنفس السبب، لا يوجد لدى الحكومة التركية أي عذر للرد على المطالب السلمية لمواطنيها بالقوة.
وإذا ما تم التعامل مع هذا الانفتاح الجديد بشكل صحيح، فسيكون ذلك بمثابة ضربة قوية للأساطير المزدوجة من العنف الثوري والقمع الذي ترعاه الدولة، وهو ما قد يكون شيئا جيدا للمنطقة برمتها.