رجل دولة
لكن المرحوم الفريق الركن الركن عبد الكريم قاسم كان مثقفاً قياساً بأغلب من جاؤوا بعده، وكان انسانياً، عدا في موقفه من تمرد العسكريين، فغلب عليه الضبط العسكري.
وشعر العراقيون بمتنفس عندما أُبرم اتفاق آذار مع الثورة الكوردية والتصريحات الواعدة، لكن بواطن الأمور توجه منظم نحو شمولية دموية لا مثيل لها في نهاية القرن العشرين والألفية الثالثة.
وقبل الإحتلال الأميركي برز على الساحة العراقية رجال في المنفى اتسموا بشجاعة متناهية، فكان موقف د. احمد الجلبي من الأقتتال الكوردي يفوق ما يصدقه البعض، بتنقله وسط النيران ساعياً للحفاظ على سلامة صخرة المعارضة العراقية الديمقراطية على جبال كوردستان.
ويتصور كثيرون أن الجلبي من بطانة الاحتلال، لأنه كان محرضاً على خلع النظام الشمولي، إلا ان الحقيقة انه كان من اوائل من دعا الأميركيين لتسليم السلطة لحكومة عراقية، وترتيب الوضع الأميركي العسكري لدعم بناء دولة مدنية ديمقراطية اتحادية. وكان اول من دعا إلى مبدأ التوافق الوطني لتطويق الطائفية متصدياً لما سنه بريمر، لتعزيز ثقة المكونات، وفقاً لسجل محاضر اجتماعات التحضير للمؤتمر الوطني الذي ترأسه د. فؤاد معصوم.
نحن اليوم في ازمة سياسية عميقة، يتبارى فيها خطباء آخر زمان بالتلويح بتعطيل السلطة التشريعية، والتحريض ضد الكورد وطموحاتهم المشروعة وتطبيق المادة 140، فتحدث الرجل الليبرالي الذي يدمغه متشنجون بالطائفية ظلماً، ليؤشر مجموعة حقائق: ان مظلومية الكورد في مقدمة العوامل المعبئة للديمقراطيات الغربية ضد النظام الشمولي، وكان للإقليم دوره برفد حركة المعارضة داخلياً وخارجياً.
ويؤكد الجلبي ان "كل الانظمة السابقة كانت تتفق مع الكورد وتسوي الخلافات معهم، لكنها تنقض الاتفاقات وتخوض حربا مكلفة للجميع ومؤدية الى ازمات رهيبة دفعنا ثمنها جميعا، والخلل ظل على الدوام غياب الحوار وعدم الالتزام بالمواثيق". ويستخلص هذا السياسي الكفوء الذي ظلمته إدارة الأميركيين المحولة لـ"التحرير" إلى "احتلال"، وعجرفة بريمر الذي طالما لوح بأن "القوة(جيش الاحتلال 2003) والشرعية الدولية( قرار مجلس الأمن 1483 المعترف بالإحتلال الأميركي للعراق في 22/5/2003) قوتان بجانبه"، يستخلص الجلبي أن"التعامل مع هذا الشريك الكوردستاني "لابد ان يجري عبر حوارات واتفاقات مسؤولة بعيدا عن التوتر العسكري".
يبقى الجلبي اميناً على التحالف الإستراتيجي مع الشعب الكوردي، يبقىٍ على شجاعته في طرح تصوراته لإدارة الدولة بعيداً عن التشنج والوقوع في حبائل المحرضين من ايتام الشمولية والمتسلقين، فالتصعيد ضد الكورد عسكرة للمجتمع ووآد للقيم المدنية والديمقراطية وإشاعة للتشنج والتعصب والتطاحن الطائفي، فيما نحن احوج ما نكون لترسخ دولتنا امام عاصفة إقليمية.
حسين فوزي