المأزق الكوردي السوري
يحكى أن الفاتح الإسلامي طارق بن زياد، بعد أن عبر بسفنه المضيق بين المغرب واسبانيا, ووضع جنوده أقدامهم على اليابسة الأوروبية، أحرق سفنه لكي لايهرب بها أحد من جيشه أو لكي لايسرقها الأعداء، ثم خطب خطبة نارية في معسكره فقال:"البحر من ورائكم والعدو من أمامكم... فأين المفر!" وذلك ليصدم عسكره بحقيقة حراجة موقفهم الذي لامخرج له إلا بالقتال المرير من أجل تحرير اسبانيا من ربقة الكنيسة وفي سبيل تحويل شعوبها إلى دين الإسلام... ويحكى أنه وعد رجاله بالمزيد من الغنائم والسبايا في حال النصر وبحواري الجنة في حال الشهادة... فتم له النصر وبقيت اسبانيا لقرونٍ عديدة في ظل الحكم العربي الاسلامي, إلى أن تم طرد المسلمين منها شر طردة بعد ارتكاب المذابح فيهم وتعريضهم لحملات تعذيب من قبل الاسبان لايزال يذكرها التاريخ في خوف مريع.
الشريط الحدودي الذي يعيش عليه الشعب الكوردي في سوريا يكاد يكون في بعض أنحائه أضيق من مضيق البحر بين المغرب واسبانيا, وذلك لأن المستعمرين الانجليز والفرنسيين شاؤوا ذلك في مرحلة تاريخية سابقة, فرسمتا الحدود بين سوريا وتركيا على هذا الشكل الحالي, بحيث تم الفصل بين الكورد شمال خط السكة الحديدية (سه ر خه تى) وإخوتهم الكورد جنوبها (بن خه تى), وفي هذا الشريط الحدودي الممتد لأقل من 1000 كم تعيش غالبية شعبنا الذي لايعترف بوجوده القومي إلا حفنة قليلة من "الديموقراطيين السوريين" في حين يعتبره الباقون من "العروبيين العنصريين" مجرد "ضيوف على الأمة العربية" التي يعتقد بعضهم أن حدودها الشمالية تبدأ من منابع الفرات ودجلة، ولذا فإنهم يرفضون كل ما يتعلق بالوجود القومي الكوردي كشعب ذي أرض تاريخية، على الرغم من أن الكورد يعيشون في مناطقهم هذه منذ فجر التاريخ البشري. كما أن الترك القادمين من أواسط آسيا يسعون بكل ما أوتوا من قوة لدعم العروبيين العنصريين في دعواهم الخاطئة هذه ويضيفون إلى ذلك بأن كل البلاد التي احتلوها وغزوها عنوة هي بلادهم وأن ليس للكورد من أرض خاصةٍ بهم في المنطقة. وحول هذه الفكرة يلتقي القوميون بالإسلاميين والديموقراطيون بالشيوعيين أيضاً.
لذا، يمكن تغيير عبارة طارق بن زياد بصدد الكورد في هذا الشريط الحدودي لتصبح على الشكل التالي:"العدو من ورائكم ومن أمامكم أيها الكورد، فمن أين المفر؟" والفارق هنا هو أن الكورد ليسوا فرسان فتحٍ أو جنود احتلال وإنما هم مستضعفو الأرض وأصحابها الشرعيون وهم الضعفاء بين الأقوياء، ولا معين لهم سوى ربهم الذين هجره وللأسف معظم الكورد السوريين بعد أن رأوا الدعاة لدينه والخطباء باسم الإسلام يقفون لعقودٍ طويلة من الزمن مع المحتلين الغزاة وأعداء الحق والسلام وليس مع المظلومين.
ربما يفكر البعض بأن الحركة السياسية الكوردية هي التي ستنقذ الكورد من المأزق السياسي الذي هم فيه الآن، وتحقيق شيء من أشكال الإدارة لأنفسهم في هذا الشريط الحدودي الطويل، الذي يحق لنا تسميته منطقياً دون تردد ب"غرب كوردستان"، فكلمة "كوردستان" ليست إلا أرض الكورد، ولا أحد يستطيع اثبات أن الكورد يعيشون على أرضٍ سوى أرض آبائهم وأجدادهم الميديين والكردوخ والهوريين والميتانيين.. ولكن أزمة الحركة ذاتها أشد ضيقاً مما يعاني منه الشعب الكوردي. إذ حتى في أوروبا الحرة الديموقراطية يقف بعض المتكلمين باسم أحزابٍ من هذه الحركة موقفاً لا يتسم بالود تجاه الثورة السورية والجيش السوري الحر ويحاولون تحويل أنظار شبابنا الكوردي عن عداوة النظام الأسدي الذي يفتك بالسوريين فتك الوحوش الضارية بالغزلان إلى مزيدٍ من العداوة لتركيا، فيجعلونها العدو الأكبر لحركتنا الكوردية السورية، بل يتفادون الحديث المباشر عن همجية النظام السوري الذي يقصف شعبه بالطائرات وبراميل المتفجرات وبالصواريخ، في حين يهددون الأتراك بأنهم سيلقون حتف جيشهم إذا ما حاولوا غزو سوريا، ولا أحد من السامعين يرفع يده ليسأل هؤلاء الأبطال فيما إذا كانوا قادرين على حماية عوائلهم ومقرات أحزابهم من هجمات للجيش النظامي السوري أو الجيش السوري الحر أو لقوات الحماية الشعبية العائدة لحزب الاتحاد الديموقراطي، في حال حدوث عدوان عليهم. إن كوادر حركةً في مثل هذا الوضع المؤسف لا ولن يستطيعوا انقاذ شعبهم لأنهم غير قادرون على فهم حركة التاريخ التي تقول ببساطة: لم يعد هناك مكان للنظم الشمولية بين شعوبنا, وهي ساقطة فتخلوا عنها وساهموا في اسقاطها، بدل الحديث التافه عن "الخط الثالث"، هذا الخط الذي لا يعني سوى الوقوف في وجه الثورة, ثورة الشعوب على الدكتاتورية المتخلفة.
الكورد في غرب كوردستان في مأزق سياسي وحركتهم لاتزال غير قادرة على حمل مسؤوليتها التارخية الكبرى, فهي متحالفة من جهة ومتحاربة في الوقت ذاته. هناك خلافات عميقة حول كل شيء، حول العلم الذي يرفعونه وحول الالتزام بقرارات هيئتهم الكوردية العليا وحول تنظيم المناطق التي انحسرت عنها سلطة النظام الأسدي وشكل الإدارة التي يجب أن تسود في هذه المناطق (إدارة ذاتية، حكم ذاتي، فيدرالية)، وكذلك حول العلاقة مع كل من النظام المترنح ومع المعارضة الوطنية السورية والجيش السوري الحر وكذلك مع تركيا التي لها موطىء قدم واضح وكبير في هذه المرحلة العسيرة من تاريخ سوريا. فكيف بحركةٍ كهذه أن تسير أمام الشعب وتقوده في الأزمات؟
أصبح فتح المقرات الحزبية ومدارس تعليم اللغة الكوردية والاحتفال بذكرى رحيل الزعيم الفلاني أو الفلاني من أهم إنجازات أحزابنا, كما صار التوجه بالنقد من قبل مثقفين إلى حزبٍ أو رئيسٍ أو كادرٍ عالي الهمة عمالة لأردوغان التركي أو خروجاً على الوحدة الوطنية أو استهتاراً بما تقدمه هذه الأحزاب من المأكولات التي تفتح الشهية كتجميل قبورالقادة الحزبيين وتوسيعها لتفوق مراتٍ ومرات تلك المدافن البسيطة والمتواضعة للقاضي محمد والشيخ سعيد بيران والبارزاني مصطفى، فهل تفوح من ردود الأبواق التي تخدم الأحزاب بمسباتها وشتائمها روائح الديموقراطية وحرية الرأي، أم أنها تطيل من عمر الفكر الشمولي الذي أقتبسناه من النظام البعثي – الأسدي مدى الأربعين سنة الماضية؟
كيف يمكن انقاذ هذا الشعب من المأزق الذي فيه، وحزب من أحزابه لا يطالب للكورد بحكمٍ ذاتي أو بفيدرالية إلا أنه يملك جيشاً يحاول فرض سيطرته على كل مناحي الحياة العامة في غرب كوردستان، فيؤسس لنظامٍ قضائي وتعليمي وتجنيدي ويفرض الخوة والضرائب على المواطنين ويضع الحواجز على الطرقات ويمنع الأحزاب المنافسة له من رفع رايات الثورة السورية والاستقلال الوطني ويتصرف وكأن غرب كوردستان في وضع مستقل، في حين أن عدداً كبيراً من الأحزاب التي لها مطالب أعلى من هذا الحزب لاتستطيع حتى حماية رؤسائها أثناء جولاتهم في المنطقة؟ وكيف يمكن الزعم بأن هذا الحزب أو تلك الأحزاب تؤمن بالديموقراطية وتعمل لها وهي غير قادرة حتى على قبول كلمة حق من عضو غير راضٍ عن سياسة لجنتها المركزية فتشل عمله بالفصل أو الطرد أو بتوجيه شتى التهم السيئة له، كما لا تملك الجرأة على نشر مقالٍ لأحد الشباب المعارضين لسياسة لجنتها المركزية على صفحات مواقعها الالكترونية؟
المأزق الكوردي السوري هو نتيجة حتمية لمأزق سياسي دخلت فيه الحركة منذ زمنٍ طويل لأسباب تاريخية عديدة، ولكنه زاد ضيقاً منذ اندلاع ثورة الحرية والكرامة في سوريا، فالحركة تضم بين فصائلها وكوادرها من لايزال يؤمن بالحوار مع هذا النظام الذي لايترك الأخضر واليابس فيدمره كله، ومن لايزال يؤمن بأن بامكان الكورد إيجاد "خطٍ ثالث" لهم بين النظام الشرس والمعارضة المقاومة، ومن انخرط في المساومات المباشرة وغير المباشرة مع أجهزة النظام السرية ظناً منه أن النظام سينجو من هذه الأزمة الخانقة وستعود المياه إلى مجاريها، كما أن في هذه الحركة من يلعب دور جحوش النظام، كما كان لدى صدام حسين جحوشه من بني الكورد أيضاً... وفي هذه الحركة من يسعى للمقاومة جنباً إلى جنب مع مقاتلي الثورة السورية ليقينه بأن مصير الشعب الكوردي، طوعاً أو كرهاً، مرتبط بما ستؤول إليه هذه الثورة المباركة... وبسبب هذه التناقضات والخلافات في الآراء والمواقف، حتى في النقاط الأساسية للبرنامج السياسي الكوردي، لا تستطيع الحركة كسب الثقة التامة لشعبها وستبقى هكذا مشتتة وشاردة الذهن وضعيفة ومترددة حتى تغلب فكرة العمل الجماعي الحقيقي والفاعل على فكرة الأطروحات والبيانات اليومية والاستنكارات وملاحم المدائح الرئاسية...
ومن أجل إخراج شعبنا من المأزق الذي فيه، وهو مأزق أحد شواطئه تركيا والآخر سوريا، يجب القيام بمبادرة عملية وحاسمة لتقليل حجم القيادات الحزبية وتنشيط العمل بين الجماهير وتوحيد الفصائل المنظمة وبناء الجيش الكوردي الحر، الذي لايأخذ أوامره إلا من القيادة المشتركة للأحزاب الكوردية المؤمنة بالتغيير والخلاص من الدكتاتورية وبالحرية والديموقراطية قولاً وعملاً. وإن تركيا التي تقف كماردٍ مدجج بالسلاح خلف ظهرنا ستحاول الاستفادة من مشاحنات وانشقاقات وخلافات حركتنا لتضربنا بعضنا ببعض، كما أن العروبيين العنصريين في سوريا لن يكفوا عن اقصائنا ما دمنا هكذا متفرقين متخاصمين وغير أقوياء. والقوة لن تتحقق بمجرد اشتداد قوة حزبٍ من دون الأحزاب الأخرى أو بقدر ما يقوم به من هجمات على سواه وإنما بقدر ما يتحد الكورد اليوم في عين العاصفة التي تهب عليهم جميعاً وستقتلعهم من جذورهم إن ظلوا على هذه الحال التي هم عليها الآن.