تساؤلات وآراء
قد يسألني سائل: لماذا تثير هكذا موضوع ونحن في حالة ثورة على نظام شمولي يرتكب المجازر كل يوم؟ فأجيب: ببساطة أنا غير مقتنع بتغير وضع الشعب الكوردي نحو الأفضل في ظل من لايقل عن البعثيين والأسديين عداء له, وأرى بأن نمط التفكير العنصري في سوريا والعراق أقدم من حكم البعث البائد وحكم العائلة الأسدية اللاحق بالبعث قريبا وهو مستمر في البقاء والحياة أمدا طويلا من الزمن, وانقاذ البلاد من قبضة عائلة حاكمة لايعني تحقيق الديموقراطية والانتهاء من الأفكار العنصرية مباشرة. ولذا لابد من العودة مرة بعد مرة إلى الموضوع الأهم لدى كل كوردي سوري صادق مع نفسه ومع شعبه, ألا وهو القضية الكوردية ومستقبلها.
مادفعني لكتابة هذه المقالة هو تراكم التساؤلات المتدافعة إلى ذهني حول علاقات هذه المكونات القومية ببعضها البعض، ومحاولتي بناء آراء شخصية بصددها. ومن هذه التساؤلات:
- لماذا يصر العرب على أن هذه البلاد السورية والعراقية كلها جزء من الأمة العربية, وهم يعلمون أن آباءهم وأجدادهم قد جاؤوا من بلاد العرب في الحجاز ونجد واليمن إلى مناطقها الشمالية بحثا عن الكلأ والماء ومن ثم لنشر الدين الإسلامي فيما بعد, في حين أن هذه المناطق شهدت ممالك لاتمت إلى الجنس السامي بصلة، كمملكة ميتاني التي امتدت من شمال سوريا إلى أطراف كركوك, ومملكة الميديين التي امتدت شرقا إلى أفغانستان ومملكة الحيثيين التي انتصر جيشها على جيش الفراعنة المصريين في معركة قاديش السورية الشهيرة في التاريخ؟
- كيف يدعي الترك أن هذه البلاد التي يعيشون فيها الآن وأطلقوا عليها ظلما وعدوانا اسم "تركيا" ملك أبدي لهم, وخاص بهم وحدهم, والعالم يعلم بأنهم جاؤوا من بلادهم الأصلية في تركستان الآسيوية بعد انتشار الإسلام في سوريا والعراق بفترة طويلة, في حين أن الكورد والأرمن واليونان والليديين الذين استولى الترك على ديارهم عن طريق نشر الذعر والقتل والحرق كانوا يعيشون في هذه المنطقة منذ فجر التاريخ البشري؟
- كيف يستطيع الفرس الزعم بأنهم أمة وانكار هذا الحق أو هذا الشعور بأنهم أمة على الكورد الذين عاشوا إلى جوارهم في المنطقة التي يسمونها بغرب ايران، منذ قرون عديدة قبل الميلاد وإلى الآن؟ ولم ينتقل حكم هذه البلاد من الكورد الميديين إليهم إلا عن طريق مصاهرة فارسية – ميدية رافقها الكثير من المكر والخداع؟
وإذا كانت كل هذه الشعوب معا أمة واحدة, فلماذا يناصر أهل المعرفة والمدافعون عن فكرة الأمة المشتركة هذه التيارات العنصرية عوضا عن الوقوف مع الكورد؟
وبحثا عن جواب لهذه التساؤلات المضنية وجدت في "نشوء الأمم" لدى السيد أنطوان سعادة, الزعيم القومي السوري الذي أعدم بعد 24 ساعة من محاكمته أن لا جماعة بشرية تعيش بدون أرض, فالأرض هي المكان الذي تنتشر فيها الحياة البشرية والحيوانية والنباتية, فالماء والهواء والتراب ودرجات معينة من الحرارة عناصر أساسية لنمو الحياة فلا مجال لحياة بشرية عادية على سطح القمر مثلا, والبيئة هي التي تؤثر بوضوح في شكل وتكوين وتطور حياة الجماعة الإنسانية, حيث نرى تفاوتا كبيرا بين نمط حياة البشر وتطورهم الحضاري في الغابات الاستوائية والصحارى الآسيوية والجبال الشاهقة مثل الأنديز في أمريكا اللاتينية أو هيمالايا في آسيا وتكاد تنعدم الحياة الإنسانية في القطبين الشمالي والجنوبي من الأرض.
لذا أجد بأن سبب رفض حكومات هذه الأقوام المستبدة بالكورد (الترك والعرب والفرس) للاعتراف بحقيقة أن الكورد أمة مثل العرب والترك والفرس هو رفضهم لوجود أرض كوردية تعيش عليها هذه الأمة أصلا. وعليه فإن الاعتراف بوجود أمة كوردية يعني الاعتراف بانها تعيش على رقعة ما من الأرض وفي بيئة معينة, ونقصد بذلك "كوردستان" التي اطلقها السلجوقيون كتسمية لبلاد الكورد, وذكرها بعض سلاطين العثمانيين أيضا في فرماناتهم التي تعدد أسماء الأوطان والبلدان التي يحكمونها, إلا أن أحفادهم أنكروا ذلك على الكورد وحاربوهم بقسوة ووحشية لارتباطهم بحقهم في سيادة أنفسهم على تلك الأرض. وأعداء الكورد "أبناء الجن!" يرون هذه البلاد ملكا منحه الله لهم وليس الكورد بملايينهم الأربعين سوى لاجئين ومهاجرين ومتسللين من البرابرة الهمج, ربما أتوا من كوكب آخر إلى هذه المنطقة, في حين أنهم يصرون على ربط القضية الفلسطينية بالأرض على الدوام.
يقول غلاة القومية العربية, المؤمنين بالنظم الشمولية والذين دافعوا عنها باستمرار, ومنهم من له الآن منصب هام في المعارضة السورية "الديموقراطية!"، بأن الكورد في سوريا أقلية تعيش ضمن الأمة العربية مثل سواها من الأقليات القومية كالشركس والآشوريين والدينية كالأقباط في مصر وكالسريان والاسماعيليين في سوريا, وبذلك يحاولون صرف الانتباه عن حقيقة أن الكورد يعيشون على قطعة أرض على اتصال مباشر مع قطعة الأرض التي يعيش عليها الكورد في العراق وفي ما يسمى ب"تركيا" وهي في الحقيقة أرض شمال كوردستان, ولايفصل كورد سوريا عن كورد تركيا والعراق سوى الحدود التي تتغير بتغير الأزمنة والسياسات الاقليمية والدولية. وكذلك فإن غلاة القومية التركية ينكرون تماما أن تكون للكورد أي علاقة بالأرض التي يعيشون عليها فهي بزعمهم أرض تركية, والله يعلم كما يعلم كثيرون من البشر في هذا العالم الفسيح أنهم لايقولون الحقيقة, فالكورد كانوا على هذه الأرض منذ قرون سحيقة قبل مجيئهم إلى أناتوليا المحرفة إلى الأناضول. كما أن الفرس يضربون على ذات الوتر النشاز لأن الناس المهتمين بشؤون الأقوام في شتى أنحاء المعمورة يعلمون أن ايران ليست بلاد الفرس وحدهم, وانما يعيش فيها كل من شعوب الكورد والآذريين والبلوج والعرب إلى جانب الفرس المسيطرين على مقاليد السلطة السياسية والمصالح الاقتصادية والقوى العسكرية, ولكنهم رغم هذه الحقيقة يقولون ما يشاؤون ويسعون إلى تفريس كل الشعوب الأخرى وتشييعها دينيا.
وإذا ما سألت أحدا من هؤلاء العنصريين المستوليين على مقاعد "ديموقراطية!" الآن عن سبب وجود هذا العمق السكاني الكوردي خارج الحدود السورية, فإنه سيفتح فاهه فاغرا وينأى عن النطق بالحقيقة. وهذا ديدن كل العنصريين الذين يبنون نظرياتهم القومية الضيقة على سرابٍ من أوهام "الأمة العظيمة".
الجريمة الكبرى هنا هي أن غالبية من يزعمون أنهم مؤمنون بالإسلام الذي دعا إلى عدم الباس الحق بالباطل وأن لانبخل الناس أشياءهم وطالب باقامة العدل في الأرض داعمون أساسيون لهؤلاء القوميين من العرب والترك والفرس في انكار الحق الكوردي في سيادة نفسه على أرض وطنه كوردستان, ويصرون على إخوتهم الكورد الإسلاميين بأن يرددوا مثلهم المزاعم الباطلة لغلاة القوميين الذين يريدونها "عربية مائة بالمائة" في الوقت الذي يؤكدون على أنهم لايعترفون بالحدود بين القوميات والشعوب, وإن السيد رجب طيب أردوغان أقرب إليهم من السيد ميشيل كيلو مثلا. وعلى ارض الواقع يقفون موقفا سلبيا للغاية من الطلب الكوردي بالغاء آثار معاهدة سايكس – بيكو الاستعمارية لعام 1916, التي تعاني بسببها بلاد الكورد من التجزئة حتى اليوم, في حين أنهم خارج إطار القضية الكوردية العادلة يقفون معك ضد تلك المعاهدة بصورة واضحة. ومواقف بعض الإسلاميين الكبار في صفوف المعارضة السورية بصدد الشأن الكوردي موثقة ويمكن للقارىء العودة إليها من خلال تصفح المواقع الالكترونية. فهم من جهة ضد الحدود ولكنهم مع هذه الحدود إذا ما تعلق الأمر بالكورد وحدهم, ومنهم من ينكر على الكورد حتى حق "الحكم الذاتي", ولانرى حتى اليوم بندا صريحا وواضح المعالم في برنامج أي حركة سياسية أو دينية عربية أو تركية أو فارسية بصدد حق الكورد في سيادة أنفسهم على أرض آبائهم وأجدادهم, وانما عبارات طنانة ورنانة عن رفع الحيف عن "المواطنين" الكورد ومساواتهم بسواهم وتعويضهم عما لحق بهم من غبن تاريخي وما إلى ذلك مما أعتبره تهربا فاضحا عن قول الحق في هذا الموضوع الهام, ونعلم تماما ما الآثار السلبية لتجاهل هذا الحق وكم هي عميقة معاناة الأمة الكوردية بسبب تلك السياسات الشوفينية العنصرية.
يقول بعض المعارضين الكورد بصدد الحديث عن العرب واسرائيل بأن اسرائيل ليست عدوة للشعب الكوردي, وأن ليس الاسرائيليون هم الذين يقتلون الكورد ويحتلون ديارهم ويرفضون حقهم, وانما الذين يفعلون ذلك هم القومجيون العرب المدعومين دينيا من حلفائهم الإسلاميين. وقد يتساءل البعض: لماذا يربط هؤلاء ربطا وثيقا بين القومجيين العرب والإسلاميين العرب؟ بالتأكيد لأن في الأمر شيء من الحقيقة.
لذا برأيي أن يتخلص الإخوان المسلمون من عقدتهم النفسية المستبدة بهم, وكذلك كل من على طريقتهم في التنكر لحقيقة أن الكورد أمة مثل سائر الأمم الأخرى, وعندما يعترفون بذلك فإنهم يساهمون في تفكيك أوصال معضلة تاريخية كبيرة لم تجلب لشعوب المنطقة سوى الحروب والتدمير والتقتيل. فلماذا تنشرح صدورهم لعبارة "وحدة الأمة العربية" و"تحرير فلسطين" وتتلبد الغيوم أمام عيونهم لذكر "وحدة الأمة الكوردية" وينفرون من "تحرير كوردستان" المغتصبة الممزقة والمضطهد شعبها على الدوام؟ أم أنهم قومجيون مثل العفالقة من دون أن يدروا؟
وكلمة أخيرة أقولها للكورد الأحياء بقلوبهم والأوعياء بعقولهم:"لن يعترف أحد بحقنا الكامل في سيادة أنفسنا على أي جزء من أرض وطننا كوردستان, ما لم نتصرف نحن كأبناء وبنات أمة وليس كأقليات لاحول ولا قوة لها في بلدان عديدة متناحرة ومختلفة على كل شيء سوى على غصب حقنا في الوجود مثلهم."