كيمياء التطرف
_جريدة الصباح
في مجتمع مأزوم مثل مجتمعنا، تزداد الحاجة الى البحث عن نقطة توازن، وتزداد الحاجة يوما بعد آخر الى كل ما يشبع الروح، في عالم يمتاز بالقسوة والفوضى والأنانية. وعلى امتداد سنوات وسنوات، افتقد الفرد العراقي جوا يستكين فيه الى التأمل مع روحه، كي يرسم طريقه خلال مستقبل قادم.
في عالم الفوضى يصعب الوصول الى حالة توازن معقول، والفوضى الخلاقة لا تستقيم مع منطق الحياة. ومن سمات العالم المتحضر هو التخطيط بهدوء وروية ليشق الانسان طريقه في الواقع. وأمام ما نشاهده من ظواهر لا تسر في تضخم الذات، والركض وراء المكاسب الشخصية، والأمجاد، يصبح وجود ثقافة روحية أمراً لابد منه.
الثقافة الروحية لا تتطلب ان يكون الشخص متصوفا، يضع جسده في برج منعزل عن ايقاع الدنيا الفانية، لا يغير خطأ ولا يرتئي رأيا. كلا على المرء ان يبحث عن نقطة توازن فيما حوله، وفي داخله، وصفة التوازن تحيلنا الى صفة مضادة هي التطرف. وهذا اكثر ما يعاني منه المجتمع ربما. ليس التطرف السياسي الا ثمرة لتطرف ثقافة سابقة تربى عليها الفرد، تحيل الى تفضيل الذات على الآخر، وتفترض حقا اضافيا نحو الآخرين، وتفضيل شريحة من الناس على غيرها، ليقود ذلك الى اقسى انواع التطرف الا وهو التطرف القومي الذي قاد شعوبا كثيرة الى كوارث تاريخية، تجربة النازية في المانيا على سبيل المثال، والتجربة القومية العنصرية في عراق ما قبل ألفين وثلاثة. حين يعتقد شخص ان قومه هم النخبة، ولهم الأولوية والمصداقية في كل شيء. الطفل حين يعتقد انه المدلل بين اخوانه، والمبدع حين يعتقد انه المميز في حرفته ولا يرى ابداع غيره، والسياسي الذي يخالطه الوهم ان قناعاته هي الصحيحة ولا يريد ان يسمع رأيا يخالفها او يأتي برؤية اكثر نفعا من رؤيته.
ثقافة التطرف تنزوي في الظلال ما ان يقر الفرد ان للحقيقة اوجها عديدة، وان كل حدث يمكن قراءته اكثر من قراءة، وان الحياة هي توازن لمصالح افراد، وكتل، وتجمعات، وأقوام. وأية هزهزة في ذلك التوازن ستخلخل هدوء المجتمع وتزيد من الاستقطابات والتشنجات. وكل ذلك يقود، حتما، الى مآس تنبو عن سياق الحياة ذاتها. ان ثقافة التطرف تنزوي ويقل تأثيرها حين يرفع الغطاء عن زوايا الأفكار المظلمة، والأفكار الشاذة، والنزعات الحادة. يرفع الغطاء عنها بفسحة من الحوار، وتبادل الأفكار، واشراك اكبر كمية من البشر في حملة تطهير للثقافات المتطرفة التي تولدت خلال سنين وسنين من القمع، والترهيب، وحجب الحقائق، والابادات.
ما ان يمتلك الانسان حريته في التعبير الحضاري عما يؤمن به، ويجد من يحاوره في ايمانه ذاك، حتى يخف وزن التطرف في داخله، ويميل يوما بعد آخر الى تنظيف قلبه من الهواجس التي ضغطت عليه، وحولت ساعاته الى كوابيس. هذه مهمة لا يقدر عليها فرد في مجتمع متحرك ومتصارع، انما هي مهمة تأوب الى التربية، والأسرة، والمثقف، ورجل الدين، والفنان، والاعلامي. مهمة ينجزها الجميع، وتستغرق ازمانا للوصول الى خلق بيئة حاضنة لثقافة التسامح والحوار والتوازن.
ونحن بحاجة الى مزيد من الانفتاح، ومزيد من الحرية، للتعبير عما يجري حولنا، حتى الوصول الى بحر التسامح الكبير، وهو لب التوازن، وعنوان وجود البشر منذ القدم. نحتاج دون شك الى سقف اعلى يستطيع الفكر ان يسبح تحته، رغم ان تلك السباحة ينبغي ان تقترن ايضا بمسؤولية عالية في طرح الأفكار ومناقشتها. وللكلمة هنا ثقلها دون شك، ولا يستطيع احد ان يحسب تأثيرها في النفوس مسبقا، وكثيرا ما قادت كلمة بسيطة الى جريمة، او فتحت باب نزاع او اوقدت حربا. وفي الجانب الآخر من الحقيقة، تظل الكلمة الطيبة صدقة بامتياز.